الرئيسية - التفاسير


* تفسير روح المعاني/ الالوسي (ت 1270 هـ) مصنف و مدقق


{ مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ }

وقوله تعالى: { مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ } الخ جواب القسم وودع من التوديع وهو في الأصل من الدعة وهو أن تدعو للمسافر بأن يدفع الله تعالى عنه كآبة السفر وأن يبلغه الدعة وخفض العيش كما أن التسليم دعاء له بالسلامة ثم صار متعارفاً في تشييع المسافر وتركه ثم استعمل في الترك مطلقاً وفسر به هنا أي ما تركك ربك وفي «البحر» و«الكشاف» التوديع مبالغة في الودع أي الترك لأن من ودعك مفارقاً فقد بالغ في تركك قيل وعليه يلزم أن يكون المنفي الترك المبالغ فيه دون أصل الترك مع أن الظاهر نفي ذلك فلا بد من أن يقال إنه إنما نفى ذلك لأنه الواقع في كلام المشركين الذي نزلت له الآية أو أن المبالغة تعود على النفي فيكون المراد المبالغة في النفي لا نفي المبالغة وقد ذكروا نظير هذين الوجهين في قوله تعالى:وماربكَ بِظَلَّـٰمٍ لّلْعَبِيدِ } [فصلت: 46] فتدبر.

وقيل: إن المعنى ما قطعك قطع المودع على أن التوديع مستعار استعارة تبعية للترك وفيه من اللطف والتعظيم ما لا يخفى فإن الوداع إنما يكون بين الأحباب ومن تعز مفارقته كما قال المتنبـي:
حشاشة نفس ودعت يوم ودعوا   فلم أدر أي الظاعنين أشيع
وحقيقة التوديع المتعارف غير متصورة هٰهنا. وتعقب بأنه على هذا لا يكون رداً لما قاله المشركون لأنهم لم يقولوا ودعه ربه على هذا المعنى كيف وهم بمعزل عن اعتقاد كونه عليه الصلاة والسلام بالمحل الذي هو صلى الله عليه وسلم فيه من ربه سبحانه وقيل في الجواب إنه يجوز أن يدل ودعه ربه على ذلك إلا أنهم قاتلهم الله تعالى قالوه على سبيل التهكم والسخرية وحين رد عليهم قصد ما يشعر به اللفظ على التحقيق وقيل إن الترك مطلق في كلامهم.

والظاهر من حالهم أنهم لم يريدوا الماهية من حيث هي ولا من حيث تحققها في ضمن ما لا يخل بشريف مقامه عليه الصلاة والسلام بل الماهية من حيث تحققها في ضمن ما يخل بذلك ولما كان المقصود إيناسه صلى الله عليه وسلم وإزالة وحشته عليه الصلاة والسلام جيء بما يتضمن نفي ما زعموه على أبلغ وجه كأنه قيل إن هذا / النوع الغير المخل بمقامك من الترك لم يكن فضلاً عما زعموه من الترك المخل بعزيز مقامك. وعندي أن الظاهر أن ذلك القول بأي معنى كان صادر على سبيل التهكم إذا كان المراد بالرب هو الله عز وجل وكان القائل من المشركين كما لا يخفى على المتأمل.

وقرأ عروة بن الزبير وابنه هشام وأبو حيوة وأبو بحرية وابن أبـي عبلة (ما ودعك) بالتخفيف وهي على ما قال ابن جني قراءة النبـي صلى الله عليه وسلم وخرجت على أن وَدَعَ مخفف وَدَّعَ ومعناه معناه قال في «القاموس» ((وَدَعَهُ كَوَضَعَهُ وَوَدَّعَ بمعنى)) وقيل ليس بمخففة بل هو فعل برأسه بمعنى ترك وأنه يعكر على قول النحاة أماتت العرب ماضي يدع ويذر ومصدرهما واسم فاعلهما واسم مفعولهما واستغنوا بما ليترك من ذلك وفي «المغرب» أن النحاة زعموا أن العرب أماتت ذلك والنبـي صلى الله عليه وسلم أفصحهم وقد قال عليه الصلاة والسلام

السابقالتالي
2 3 4 5