الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ فَبَعَثَ ٱللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي ٱلأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَـٰذَا ٱلْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ ٱلنَّادِمِينَ }

قوله تعالى: { لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي }: هذه اللامُ يجوز فيها وجهان، أحدهما: انها متعلقةٌ بـ " يبحث " أي: يَنْبُشُ ويُثير الترابَ للإِراءة، الثاني: انها متعلقةٌ بـ " بَعَثَ " ، و " كيف " معمولةٌ لـ " يُوارِي " ، وجملةُ الاستفهامِ معلقةٌ للرؤيةِ البصريةِ، فهي في محلِّ المفعولِ الثاني سادةٌ مسدَّه، لأن " رأى " البصرية قبل تعدِّيها بالهمزةِ متعديةٌ لواحد فاكتسبت بالهمزةِ آخرَ، وتقدَّم نظيرُها في قوله:أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي ٱلْمَوْتَىٰ } [البقرة: 260] والسَّوْءَةُ هنا المرادُ بها ما الا يَجُوز أن ينكشِفَ مِنْ جسِده، وهي الفضيحة أيضاً قال:
1716-.................   يالقَومي لِلسَّوْءَة السَّوْآءِ
ويجوزُ تخفيفُها بإلقاءِ حركةِ الهمزة على الواوِ وهي قراءةُ الزهري، وحينئذ فلا يجوزُ قَلْبُ هذه الواوِ ألفاً وإنْ صَدَقَ علَيها أنها حرفُ علةٍ متحركٌ منتفحُ ما قبلَه، لأنَّ حركتَها عارضةٌ، ومثلُها: " جَيَلَ " " وتَوَم " مخفَّفَيْ جَيْئَل وتَوْءَم، يجوزُ أيضاً قلْبُ هذه الهمزةِ واواً، وإدغام ما قبلها فيها تشبيهاً للأصلي بالزائد وهي لغةٌ، يَقُولون في " شيء " و " ضوء ": شيّ، وضوّ، قال:
1717- وإنْ يَرَاوسَيَّةً طاروا بها فَرحاً   مني وما سَمِعُوا من صالحٍ دفَنُوا
وبهذا الوجهِ قرأ أبو جعفر.

قوله: { يَاوَيْلَتَا } قلب ياءَ المتكلم ألفاً وهي لغةٌ فاشية في المنادى المضافِ إليها، وهي إحدى اللغاتِ الست، وقد تقدَّم ذكرها، وقُرئ كذلك على الأصل، وهي قراءةُ الحسن البصري. والنداء وإن كان أصلُه لِمَنْ يتأتَّى منه الإِقبالُ وهم العقلاءُ، إلا أن العرب تتجَوَّز فتنادي ما لا يعقل، والمعنى: يا ويلتي احْضُري فهذا أوانُ حضورك، ومثله:يٰحَسْرَةً عَلَى ٱلْعِبَادِ } [يس: 30]/، ويٰحَسْرَتَا عَلَىٰ مَا فَرَّطَتُ } [الزمر: 56]. وأمال حمزة والكسائي وأبو عمرو في رواية الدوري ألف " حسرتا " والجمهورُ قرأ " أعَجْزْتَ " بفتح الجميم وهي اللغة الفصحية يقال: " عَجَزت " - بالفتح في الماضي - " أعجِزُ " بكسرِها في المضارع. وقرأ الحسن والفياض وابن مسعود وطلحة بكسرها وهي لُغَيَّةٌ شاذة، وإنما المشهور أن يقال: " عَجِزت المرأة " بالكسر، أي كَبُرت عجيزتُها. و " أن أكون " على اسقاطِ الخافضِ أي عَنْ أكونَ، فلمَّا حُذِف جَرَى فيه الخلافُ المشهور.

قوله: { فَأُوَارِيَ } قرأ الجمهورُ بنصب الياء، وفيها تخريجان أصحُّهما: أنه عطفٌ على " أكونَ " المنصوبةِ " بـ " أَنْ " منتظماً في سلكه أي: أعجَزْت عن كوني مشبهاً للغراب فموارياً. والثاني:- ولم يذكر الزمخشري غيره - أنه منصوبٌ على جواب الاستفهام في قوله: " أعجَزْتُ يعني فيكونُ من باب قوله:فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَآءَ فَيَشْفَعُواْ لَنَآ } [الأعراف: 53] وهذا الذي ذكره أبو القاسم رَدَّه أبو البقاء بعد أن حكاه عن قوم، قال: " وذَكَر بعضُهم أنه يجوزُ أن ينتصِبَ على جواب الاستفهام وليس بشيء، إذ ليس المعنى: أيكونُ مني عجزٌ فمواراةٌ، ألا تَرى أنَّ قولَك: " أين بيتُك فأزورَك " معناه: لو عَرَفْتُ لزرتُ، وليس المعنى هنا لو عَجَزت لَوارَيْتَ " قلت: وهذا الردُّ على ظاهرِه صحيحٌ، وبَسْطُ عبارةِ أبي البقاء أنَّ النحاةَ يشترطون في جوازِ نَصْبِ الفعلِ بإضمار " أنْ " بعد الأشياء الثمانية - غير النفي - أن ينحلَّ الكلامُ إلى شرطٍ وجزاء، فإنْ انعقدَ منه شرطٌ وجزاءٌ صَحَّ النصبُ، وإلاَّ امتنعَ، ومنه: " أين بيتك فأزورَك " [أي:] إن عَرَّفْتَني بيتك أزرُك، وفي هذا المقام لو حَلَّ منه شرط وجزاء لفسدَ المعنى، إذ يصير التقديرُ: إنْ عَجَزْت وارَيْتَ، وهذا ليس بصحيح، لأنه إذا عَجَز كيف يواري.

السابقالتالي
2