الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ ٱلثَّقَلاَنِ } * { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } * { يٰمَعْشَرَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنسِ إِنِ ٱسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ فَٱنفُذُواْ لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ } * { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } * { يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلاَ تَنتَصِرَانِ } * { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }

قوله تعالى: { سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا ٱلثَّقَلاَنِ } يقال: فَرَغت من الشغل أفرغُ فُروغاً وفَرَاغاً وتفرّغت لكذا واستفرغت مجهودي في كذا أي بذلته. والله تعالى ليس له شغل يفرغ منه، إنما المعنى سنقصد لمجازاتكم أو محاسبتكم، وهذا وعيد وتهديد لهم كما يقول القائل لمن يريد تهديده: إذاً أتفرغ لك أي أقصدك. وفرغ بمعنى قصد وأنشد ٱبن الأنباري في مثل هذا لجرير:
ألاَن وقَدْ فَرَغْتُ إلى نُمَيْرٍ   فهذا حينَ كُنْتُ لها عَذابَا
يريد وقد قصدت. وقال أيضاً وأنشده النحاس:
* فَرَغْـتُ إلـى العَبْـدِ المقَيَّدِ فـي الحِجْـلِ   
وفي الحديث: " أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لما بايع الأنصار ليلة العقبة، صاح الشيطان: يا أهل الجُبَاجب! هذا مُذَمَّم يبايع بني قَيْلة على حربكم فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:«هذا إِزْبُ العَقَبة أَمَا والله يا عدوّ الله لأتفرغن لك» " أي أقصد إلى إبطال أمرك. وهذا ٱختيار القتبي والكسائي وغيرهما. وقيل: إن الله تعالى وعد على التقوى وأوعد على الفجور، ثم قال: «سَنَفْرُغُ لَكُمْ» مما وعدناكم ونوصل كُلاًّ إلى ما وعدناه أي أقسم ذلك وأتفرغ منه. قاله الحسن ومقاتل وٱبن زيد. وقرأ عبد الله وأبيّ «سَنَفْرُغُ إِلَيْكُمْ» وقرأ الأعمش وإبراهيم «سَيُفْرَغُ لَكُمْ» بضم الياء وفتح الراء على ما لم يسم فاعله. وقرأ ٱبن شهاب والأعرج «سَنَفْرَغُ لَكُمْ» بفتح النون والراء قال الكسائي: هي لغة تميم يقولون فَرِغَ يَفرَغ، وحكي أيضاً فَرَغَ يَفرَغ ورواهما هُبيرة عن حفص عن عاصم. وروى الجُعْفي عن أبي عمرو «سَيَفْرَغُ» بفتح الياء والراء، ورويت عن ٱبن هُرْمز. وروي عن عيسى الثّقفي «سَنِفْرَغُ لَكُمْ» بكسر النون وفتح الراء، وقرأ حمزة والكسائي «سَيَفْرُغُ لَكُمْ» بالياء. الباقون بالنون وهي لغة تهامة. والثَّقلان الجنّ والإنس سُمّيا بذلك لعظم شأنهما بالإضافة إلى ما في الأرض من غيرهما بسبب التكليف. وقيل: سمّوا بذلك لأنهم ثقل على الأرض أحياءً وأمواتاً قال الله تعالى:وَأَخْرَجَتِ ٱلأَرْضُ أَثْقَالَهَا } [الزلزلة:2] ومنه قولهم: أعطه ثقله أي وزنه. وقال بعض أهل المعاني: كل شيء له قدر ووزن يُنافَسُ فيه فهو ثقل. ومنه قيل لبيض النعام ثقل لأن واجده وصائده يفرح به إذا ظفر به. وقال جعفر الصادق: سمّيا ثقلين لأنهما مثقلان بالذنوب. وقال: { سَنَفْرُغُ لَكُمْ } فجمع، ثم قال: { أَيُّهَا ٱلثَّقَلاَنِ } لأنهما فريقان وكل فريق جمع، وكذا قوله تعالى: { يٰمَعْشَرَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنسِ إِنِ ٱسْتَطَعْتُمْ } ولم يقل إن ٱستطعتما لأنهما فريقان في حال الجمع، كقوله تعالى:فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ } [النمل:45] وهَـٰذَانِ خَصْمَانِ ٱخْتَصَمُواْ فِي رَبِّهِمْ } [الحج:19] ولو قال: سنفرغ لكما، وقال إن ٱستطعتما لجاز. وقرأ أهل الشام «أَيُّهُ الثَّقَلانِ» بضم الهاء. الباقون بفتحها وقد تقدّم. مسألة: هذه السورة و«الأَحْقَاف» و { قُلْ أُوحِيَ } دليل على أنّ الجنّ مخاطبون مكلَّفون مأمورون منهيون مثابون معاقبون كالإنس سواء، مؤمنُهم كمؤمنهم، وكافرُهم ككافرهم، لا فرق بيننا وبينهم في شيء من ذلك.

السابقالتالي
2 3