الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير صدر المتألهين/ صدر المتألهين الشيرازي (ت 1059 هـ) مصنف و مدقق


{ قَالُواْ سُبْحَٰنَكَ لاَ عِلْمَ لَنَآ إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَآ إِنَّكَ أَنْتَ ٱلْعَلِيمُ ٱلْحَكِيمُ }

لمّا علموا قصورَهم عن معرفة الأسماء وحقائق ما هي خارجة عن مقامهم ونشأتهم، اعترفوا بالعجز، وأقرّوا بالقصور.

[علوم الملائكة، وفضل الإنسان عليهم]

واعلم أن العلوم بعضها فطريّة، وبعضها كسبيّة، وبعضها موهبيّة. والعلوم الفطريّة؛ كعلم الشيء بذاته، وصفاته اللازمة لذاته، وبأفعاله الناشئة عن ذاته، وبفاعله من الجهة التي هي وجهه الخاصّ إليه، وبه. والعلمان الآخران لا يخلو كل منهما من سعي العبد في تحصيله واجتهاده في ابتغاء ذلك، سواء كان بالفكر، كما في طريقة النظّار، أو بالتصفية للباطن والتطهير له عن الشوائب العاديّة، كما في طريقة أولي الأبصار.

وعلوم الملائكة من قبيل القسم الأول، لعدم إمكان التغيّر والاستحالة من طورٍ إلى طور فيهم، ولا لها كمال منتظَر، ولا تجدّد أحوال ولا تهيّؤ واستعداد من جانب القابل المتبدّل، ولا حيثيّة كماليّة إلاّ ما حصلت لهم من جهة المبدِع الفاعل؛ وإليه الإشارة بقوله [تعالى]: { لاَ عِلْمَ لَنَآ إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَآ }.

والمقصود أنّ علوم الملائكة منحصرة فيما يكون حصولها لهم بحسب الفطرة الأولى، من أوائل علومهم الحاصلة من الأسباب الفاعلية من غير مداخلة قابل، أو تعمّل، أو اكتساب، أو استعمال للقوّة القابليّة - إما بالحدس أو بالرويّة -، وإلاّ فجميع العلوم ليست إلاّ بتعليم الله من غير اختصاص لعلومهم بذلك.

والغرض أن الإنسان مختصٌّ متميّز عن الملائكة وغيرهم بجامعيّة العلوم والنشآت، ومظهريّة جميع الأسماء والصفات، والانتقال من أسفل سافلين إلى أعلى العليّين، لأجل لحوق المزائلة عمّا كان أولاً، وحصول الموت الطبيعي أو الإرادي له عن كلّ نشأة، للانتقال به إلى نشأة أُخرى فوقها.

ومثل هذه الاستحالات والانقلابات، لا توجد في غيره - سيّما الملائكة العلويّة -، فمنهم سجودٌ لا يركعون، ومنهم ركوعٌ لا ينتصبون، وصافّون لا يتزايلون، ومسبّحون لا يسأمون، لا يغشاهم نوم العيون، ولا سهو العقول. ولا فترة الأبدان، هكذا في كلام أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة.

والثبات على حالة واحدة - وإن كان معدوداً من صفات الكمال، وتشبّهاً بالمبدء الفعّال -، إلاّ إنّه يمنع من المزيد، ويحبس العبد على الحاضر العتيد، والتجدّد في الأحوال - وإن كان معدوداً من صفات النقص، كالموت والعدم والقوّة -، إلاّ إنّه كالموت الذي هو تحفة المؤمن، قد يبلغ بالرجال من أدنى المراتب إلى أرفع الأحوال وأعلى درجات الكمال، وبهذا يفوق الإنسان على غيره.

والملائكة عليهم السلام، لمّا بَان لهم من فضل الإنسان، وجهة فضيلته على سائر الأكوان، وعلموا وجه الحكمة في ايجاده واخراجه من مكامن القوّة والإمكان، ومطاوي الأفلاك والأركان، فعظّموا جلال الحقّ، ومجّدوه وسبّحوه تعجّباً وشكراً لنعمته، بما عرّفهم من مكنون علمه، وكشف لهم عن مرآة جماله وجلاله، ومجلى أحوال صفاته وأنوار كماله.

السابقالتالي
2 3 4