الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَّوْجٌ كَٱلظُّلَلِ دَعَوُاْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى ٱلْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَآ إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ }

معنى { غَشِيَهُمْ مَّوْجٌ.. } [لقمان: 32] يعني: غطاهم واحتواهم لذلك قال: { كَٱلظُّلَلِ.. } [لقمان: 32] جمع ظُلَّة، وهي التي تعلو الإنسان وتظلله، ولا يكون الموج كذلك إلا إذا علا عن مستوى الإنسان، وخرج عن رتابة الماء وسجسجته. ومن ذلك قول الله تعالى:وَإِذ نَتَقْنَا ٱلْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ.. } [الأعراف: 171]. وأنت تشاهد هذه المظاهر إذا كنتَ في عرض البحر، فترى الموجة من بعيد أعلى منك، وأنها حتماً ستطمسك، حتى إذا ما وصلتْ إليك شاهدتَ فيها مظهراً من لطف الله بك، حيث تتلاشى وتمر من تحتك بسلام، وهذا شيء عجيب ونعمة تستوجب الشكر. فالموج إذن شيء مخيف لذلك لما غشيهم وأيقنوا الهلاك { دَعَوُاْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ.. } [لقمان: 32] دعوا الله رغم أنهم كافرون به، لكن المرء في مثل هذه الحال لا يخدع نفسه ولا يكذب عليها، فالأمر جد، فلم يدعوا اللات أو العزى، ولم يقُلْ أحد منهم يا هبل، إنما دعوا الله بإخلاص لله، فإنْ كانوا ملتفتين لدين آخر في عبادة الأصنام، ففي هذا الموقف لا بُدَّ أن يُخلصوا لله لأنهم واثقون أن الأصنام لن تنفعهم، وأنها لا تملك لهم ضراً ولا نفعاً، ولن يكون النفع وكشف البلاء إلا من الله الحق. فإنْ قُلْتَ: ما دام الأمر كذلك، فما الذي صرفهم عن عبادة الله إلى عبادة الأصنام؟ قلنا: إن التديُّن طبيعة في النفس البشرية، وهذه الطبيعة باقية في ذرات كل إنسان منذ خلق الله آدم، وأخذ من صُلْبه ذريته، وأشهدهم على أنفسهمأَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ.. } [الأعراف: 172] فشهدوا. فكل واحد منا فيه ذرة شهدتْ هذا العهد، وهذه الذرة هي مصدر الإشراقات في نفس المؤمن، وعليه أنْ يحافظ عليها بأن يأخذ قانون صيانة هذه الذرة ممن خلقها، لا أنْ يطمس نورها بمخالفة قانون صيانته الذي وضعه له ربه - عز وجل - فيكون كمَنْ قال الله فيه:وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ ٱلْقِيامَةِ أَعْمَىٰ } [طه: 124]. النبي صلى الله عليه وسلم يُوضح لنا هذه المسألة بقوله: " كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يُهوِّدانه، أو يُنصرِّانه أو، يُمجِّسانه ". فالنفس الإنسانية بخير ما دام فيها الإشراقيات الإلهية الأولى التي شهدتْ أن الله هو الرب، لكن إذا تضبَّبت فلا بُدَّ أن تحدث الخيبة ويدخل الفساد. إذن: التديُّن طَبْع في النفس، لكن التديُّن الحق له مطلوبات ومنهج بافعل كذا، ولا تفعل كذا، وهذا يريد أنْ يُرضي نفسه بأن يكون مُتديناً، لكن يريد أنْ يريح نفسه من مطلوبات هذا التدين، فماذا يفعل؟ يلجأ إلى عبادة إله لا مطلوبات له، وقد توفرت هذه في عبادة الأصنام. لكن نقول لمن عبد الأصنام: لا بُدَّ أنْ يأتي عليك الوقت الذي لا تلتفت فيه إلى الأصنام، بل إلى الإله الحق الذي هربتْ من مطلوباته وانصرفت عن عبادته، لا بُدَّ أن تُلجئك الأحداث إلى أنْ تلوذ به لذلك يقولون في المثل اللي متحبش تشوف وجهه، يُحوجك الزمن لقفاه.

السابقالتالي
2