الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ مِنْ أَجْلِ ذٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي ٱلأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ٱلنَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِٱلّبَيِّنَٰتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ بَعْدَ ذٰلِكَ فِي ٱلأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ }

{ مِنْ أَجْلِ ذٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِىۤ إِسْرَٰءِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِى ٱلأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ٱلنَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَـٰهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً }. يتعيّن أن يكون { من أجل ذلك } تعليلاً لــ { كتبنا } ، وهو مبدأ الجملة، ويكون منتهى التي قبلها قولهمن النّادمين } المائدة 31. وليس قوله { من أجل ذلك } معلّقاً بــ«النّادمين» تعليلاً له للاستغناء عنه بمفاد الفاء في قولهفأصبح } المائدة 31. و { مِن } للابتداء، والأجْل الجَرّاء والتسبّب أصله مصدر أجَلَ يأجُل ويأجِل كنصر وضرب بمعنى جَنَى واكتسب. وقيل هو خاصّ باكتساب الجريمة، فيكون مرادفاً لجَنَى وَجَرَم، ومنه الجناية والجريمة، غير أنّ العرب توسّعوا فأطلقوا الأجْل على المكتسب مطلقاً بعلاقة الإطلاق. والابتداء الذي استعملت له مِن هنا مجازي، شُبّه سبب الشيء بابتداء صدوره، وهو مثار قولهم إنّ من معاني مِنْ التعليل، فإنّ كثرة دخولها على كلمة «أجل» أحدث فيها معنى التّعليل، وكثر حذف كلمة أجل بعدها محدث فيها معنى التّعليل، كما في قول الأعشى
فآليْت لا أرثي لها من كلالة ولا من حَفى حتّى ألاقي محمّداً   
واستفيد التّعليل من مفاد الجملة. وكان التّعليل بكلمة مِن أجل أقوى منه بمجرّد اللام، ولذلك اختير هنا ليدلّ على أنّ هذه الواقعة كانت هي السّبب في تهويل أمر القتل وإظهار مثالبه. وفي ذكر اسم الإشارة وهو خصوص { ذلك } قصدُ استيعاب جميع المذكور. وقرأ الجمهور { منْ أجل ذلك } ـــ بسكون نون مِن وإظهار همزة أجل ـــ. وقراءة ورش عن نافع ـــ بفتح النّون وحذف همزة أجل ـــ على طريقته. وقرأ أبو جعفر { مِننِ اجْل ذلك } ـــ بكسر نون من وحذففِ همزة أجل بعد نقل حركتها إلى النّون فصارت غير منطوق بها. ومعنى { كتبنا } شرعنا كقولهكُتب عليكم الصّيام } البقرة 183. ومفعول { كتبنا } مضمون جملة { أنّه مَن قتل نفساً بغير نفس أو فسادٍ في الأرض فكأنّما قتل النّاس جميعاً }. وَأنَّ من قوله { أنَّه } بفتح الهمزة أخت إنّ المكسورة الهمزة وهي تفيد المصدريّة، وضمير «أنّه» ضمير الشأن، أي كتبنا عليهم شأناً مهمّاً هو مماثلةُ قتل نفس واحدة بغير حقّ لقتل القاتل النّاسَ أجمعين. ووجه تحصيل هذا المعنى من هذا التّركيب يتّضح ببيان موقع حرف أنّ المفتوح الهمزة المشدّد النّون، فهذا الحرف لا يقع في الكلام إلاّ معمولاً لعامل قبله يقتضيه، فتعيّن أنّ الجملة بعد أنّ بمنزلة المفرد المعمول للعامل، فلزم أنّ الجملة بعد أنّ مؤوّلة بمصدر يسبك، أي يؤخذ من خبر أنّ. وقد اتّفق علماء العربيّة على كون أنّ المفتوحة الهمزة المشدّدة النّون أختاً لحرف إنّ المكسورة الهمزة، وأنّها تفيد التّأكيد مثل أختها. واتّفقوا على كون أنْ المفتوحة الهمزة من الموصولات الحَرْفيّة الخمسة الّتي يسبك مدخولها بمصدر.

السابقالتالي
2 3