الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَأُزْلِفَتِ ٱلْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ } * { هَـٰذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ } * { مَّنْ خَشِيَ ٱلرَّحْمَـٰنَ بِٱلْغَيْبِ وَجَآءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ } * { ٱدْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ ذَلِكَ يَوْمُ ٱلُخُلُودِ } * { لَهُم مَّا يَشَآءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ }

عطف { وأزلفت } على { يقول لجهنم }. فالتقدير يوم أزلفت الجنة للمتقين وهو رجوع إلى مقابل حالةِ الضالّين يومَ يُنفخ في الصور، فهذه الجملة متصلة في المعنى بجملةوجاءت كل نفس معها سائق وشهيد } ق 21 ولو اعتبرت معطوفة عليها لصح ذلك إلا أن عطفها على جملةيوم يقول لجهنم هل امتلات } ق 30 غنية عن ذلك ولا سيما مع طول الكلام. والإزلاف التقريب مشتق من الزَلَف بالتحريك وهو القربة، وقياس فعله أنه كفَرِح كما دل عليه المصدر ولم يُرو في كلامهم، أي جعلت الجنة قريباً من المتقين، أي ادْنُوا منها. والجنة موجودة من قبل وُرود المتَّقين إليها فإزلافها قد يكون بحشرهم للحساب بمقربة منها كرامة لهم عن كلفة المسير إليها، وقد يكون عبارة عن تيسير وصولهم إليها بوسائل غير معروفة في عادة أهل الدنيا. وقوله { غير بعيد } يرجح الاحتمال الأول، أي غير بعيد منهم وإلاّ صار تأكيداً لفظياً لــ { أُزلفت } كما يقال عاجل غير آجل، وقولهوأضل فرعون قومه وما هدى } طه 79 والتأسيس أرجح من احتمال التأكيد. وانتصب { غير بعيد } على الظرفية باعتبار أنه وصف لظرف مكان محذوف. والتقدير مكاناً غير بعيد، أي عن المتقين. وهذا الظرف حال من { الجنة }. وتجريد { بعيد } من علامة التأنيث إما على اعتبار { غير بعيد } وصفاً لمكانٍ، وإمّا جَريٌ على الاستعمال الغالب في وصف بَعيد وقريب إذا أريد البعد والقرب بالجهة دون النسب أن يُجرَّدَا من علامة التأنيث كما قاله الفرّاء أو لأن تأنيث اسم الجنة غير حقيقي كما قال الزجاج، وإما لأنه جاء على زنة المصدر مثل الزئير والصَّليل، كما قال الزمخشري، ومثله قوله تعالىإن رحمة الله قريب من المحسنين } الأعراف 56. وجملة { هذا ما توعدون } معترضة، فلك أن تجعلها وحدها معترضة وما بعدها متصلاً بما قبلها فتكون معترضة بين البدل والمبدل منه وهما { للمتقين } و { لكل أواب } ، وتجعل { لكل أواب } بدلاً من { للمتقين } ، وتكرير الحرف الذي جُرّ به المبدَل منه لقصد التأكيد كقوله تعالىقال الذين استكبروا للذين استضعفوا } سبأ 32 لمن آمن منهم الآية وقولهولأبَوَيْه لكلّ واحد منهما السدس } النساء 11. واسم الإشارة المذكر مراعى فيه مجموع ما هو مشاهد عندهم من الخيرات. والأوّاب الكثير الأوب، أي الرجوع إلى الله، أي إلى امتثال أمره ونهيه. والحفيظ الكثير الحفظ لوصايا الله وحدوده. والمعنى أنه محافظ على الطاعة فإذا صدرت منه فلتة أعقبها بالتوبة. و { من خشي الرحمٰن بالغيب } بدل من { كل أوّاب }. والخشية الخوف. وأطلقت الخشية على أثرها وهو الطاعة. والباء في { بالغيب } بمعنى في الظرفية لتنزيل الحال منزلة المكان، أي الحالة الغائبة وهي حالة عدم اطِّلاع أحد عليه، فإن الخشية في تلك الحالة تدل على صدق الطاعة لله بحيث لا يرجو ثناء أحد ولا عقاب أحد فيتعلق المجرور بالتاء بفعل { خشي }.

السابقالتالي
2 3