الرئيسية - التفاسير


* تفسير جواهر التفسير/ الخليلي (مـ 1942م- ) مصنف و مدقق


{ وَقُلْنَا يَآءَادَمُ ٱسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ ٱلْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـٰذِهِ ٱلشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ ٱلْظَّٰلِمِينَ }

هذه مرحلة من المراحل التي مر بها أبو البشر صلوات الله وسلامه على نبينا وعليه قبل أن يتم استخلافه في الأرض وينوء بأثقاله، ويتعود على تكاليفه، وقد أراد الله بإمراره في هذه المرحلة أن يعده بتربيته على الأمر والنهي وتعويده على البلاء والصبر للتكيف حسب مقتضيات هذا الاستخلاف، فمن المعلوم أن توطين النفس على التكاليف مما يقوي صبرها على تحملها، ومن لطف الله به أنه لم يلقها على ظهره دفعة واحدة، بل درجه فيها ليبتليه، ويعرفه بضعفه، وليُقِرّ في نفسه أنه لا ملجأ له من مكائد الشيطان ووساوسه إلا إلى الله تعالى وحده، حتى يكون أسوة لذريته في ذلك.

ويتمثل ذلك كله في إسكان الله إياه الجنة، وإذاقته نعيمها، وإباحة متعها له، ما عدا شيئا واحدا وهو شجرة حجر الله عليه الأكل منها سواء كانت هذه الشجرة فردا من الأشجار معينا أو جنسا من أجناسها تدخل ضمنه أفراد شتى، وقد تبدو هذه المحنة هينة عند من لا يعلم طبيعة الإِنسان ولا يحيط بمكائد الشيطان ولكنها في حقيقتها محنة صعبة، فإن النفس البشرية خلقت ميالة الى ما حجر عليها، ومتطلعة إلى ما خفي عنها، وللشيطان وسائل إليها وقد عقد العزم على إضلالها فكان في حجر الأكل على آدم وزوجه من هذه الشجرة اختبار لإِرادته وتعريف له بعجزه، ومن ناحية أخرى فإن السلب بعد الوهب من أتعب ما يعانيه الإِنسان، فلا غرو إذ اعيل صبر آدم على محنة الحرمان من هذا النعيم الذي كان يتفيأ ظلاله ويتقلب على لطفه الوثير، وضاق ذرعه من وحشة الإِبعاد بعد أن التقريب، ولم يكن قذفه بهذه المصائب إلا لتمام أعداده للمهمة التي نيطت به، فإنه خُلق لحياة الأرض التي يجد فيها العطاء والحرمان، والأنس الوحشة، والخير والشر، حتى يجتازها بسلام فينقلب إلى ما أعد له من النعيم الدائم جزاء عمله وصبره، وجهاده وكفاحه، فكان في كل ما مر به تربية نفسية له ولذريته الذين سينوؤن بما ناء به من التكاليف، وسيتحملون ما تحمله من مشاق حتى يعبروا طريق هذه الحياة، وينقلب كل منهم إلى حياة أخرى يجني فيها ما غرس، ويحصد ما زرع خيرا كان أو شرا.

وقد يقول قائل: إن آدم عليه السلام فشل في هذا الامتحان لأن الشيطان بلغ منه قصده، فقد تمكن من إنسائه عهد الله، وقدر على التأثير عليه حتى ارتكب ما نُهي عنه.

والجواب أن هذا لا يعد فشلا مع تدارك الأمر بالتوبة والانقلاب من الغفلة والغي والمعصية إلى أضدادها من الذكر والرشد والطاعة، وقد أراد الله لآدم أن يكون إمام التائبين من ذريته فإنهم جميعا خطاؤون وخير الخطَّائين التوابون، ولهم في أبيهم آدم - الذي ثاب إليه رشده فتعجل التوبة إلى الله - أسوة حسنة، أما الذي يُخلد إلى هواه ويصر على غيه ويركب رأسه في عناده لله فله في الشيطان - الذي أصر واستكبر استكبارا - أسوة سيئة.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8 9