الرئيسية - التفاسير


* تفسير روح المعاني/ الالوسي (ت 1270 هـ) مصنف و مدقق


{ قَالَ رَبِّ ٱغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لاَّ يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّن بَعْدِيۤ إِنَّكَ أَنتَ ٱلْوَهَّابُ }

{ قَالَ } بدل منأَنَابَ } [ص: 34] وتفسير له على ما في «إرشاد العقل السليم» وهو الظاهر. ويمكن أن يكون استئنافاً بيانياً نشأ من حكاية ما تقدم كأنه قيل فهل كان له حال لا يضر معه مسح الخيل سوقها وأعناقها؟ وهل كان بحيث تقتضي الحكمة فتنته؟ فأجيب بما أجيب وحاصله نعم كان له حال لا يضر معه المسح وكان بحيث تقتضي الحكمة فتنته فقد دعا بملك عظيم فوهب له، ويمكن أن يقرر الاستئناف على وجه آخر، وكذا يمكن أن يكون استئنافاً نحوياً لحكاية شيء من أحواله عليه السلام فتأمل.

{ رَبّ ٱغْفِرْ لِى } ما لم أستحسن صدوره عني. { وَهَبْ لِى مُلْكاً لاَّ يَنبَغِى لاِحَدٍ مّن بَعْدِى } أي لا يصح لأحد غيري لعظمته فبعد هنا نظير ما في قوله تعالى:فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ ٱللَّهِ } [الجاثية: 23] أي غير الله تعالى، وهم أعم من أن يكون الغير في عصره، والمراد وصف الملك بالعظمة على سبيل الكناية كقولك لفلان ما ليس لأحد من الفضل والمال وربما كان في الناس أمثاله تريد أن له من ذلك شيئاً عظيماً لا أن لا يعطي أحد مثله ليكون منافسة، وما أخرج عبد بن حميد والبخاري ومسلم والنسائي والحكيم الترمذي في «نوادر الأصول»، وابن مردويه عن أبـي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن عفريتاً جعل يتفلت عليَّ البارحة ليقطع عليَّ صلاتي وإن الله تعالى أمكنني منه فلقد هممت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد حتى تصبحوا فتنظروا إليه كلكم فذكرت قول أخي سليمان { رَبّ ٱغْفِرْ لِى وَهَبْ لِى مُلْكاً لاَّ يَنبَغِى لاِحَدٍ مّن بَعْدِى } فرده الله تعالى خاسئاً " لا ينافي ذلك لأنه عليه الصلاة والسلام أراد كمال رعاية دعوة أخيه سليمان عليه السلام بترك شيء تضمنه ذلك الملك العظيم وإلا فالملك العظيم ليس مجرد ربط عفريت إلى سارية بل هو سائر ما تضمنه قوله تعالى الآتي:فَسَخَّرْنَا لَهُ ٱلرّيحَ } [ص: 36] الخ. وقيل: إن عدم المنافاة لأن الكناية تجامع إرادة الحقيقة كما تجامع إرادة عدمها، ولعله إنما طلب عليه السلام ذلك ليكون علامة على قبول سؤاله المغفرة وجبر قلب عما فاته بترك الاستثناء أو ليتوصل به إلى تكثير طاعته لله عز وجل ونعمة الدنيا الصالحة للعبد الصالح فلا إشكال في طلب الملك في هذا المقام إذا قلنا بما يقتضيه ظاهر النظم الجليل من صدور الطلبين معاً.

وقال الزمخشري: ((كان سليمان عليه السلام ناشئاً في بيت الملك والنبوة ووارثاً لهما فأراد أن يطلب من ربه عز وجل معجزة فطلب على حسب إلفه ملكاً زائداً على الممالك زيادة خارقة للعادة بالغة حد الإعجاز ليكون/ ذلك دليلاً على نبوته قاهراً للمبعوث إليهم ولن تكون معجزة حتى تخرق العادات فذلك معنى { لاَّ يَنبَغِى لاِحَدٍ مّن بَعْدِى } )) فقوله من { بَعْدِى } بمعنى من دوني وغيري كما في الوجه السابق، وحسن طلب ذلك معجزة مع قطع النظر عن الإلف أنه عليه السلام كان زمن الجبارين وتفاخرهم بالملك ومعجزة كل نبـي من جنس ما اشتهر في عصره، ألا ترى أنه لما اشتهر السحر وغلب في عهد الكليم عليه السلام جاءهم بما يتلقف ما أتوا به، ولما اشتهر الطب في عهد المسيح عليه السلام جاءهم بإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى، ولما اشتهر في عهد خاتم الرسل صلى الله عليه وسلم الفصاحة أتاهم بكلام لم يقدروا على أقصر فصل من فصوله.

السابقالتالي
2 3 4