الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ }

قوله: { هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ }: اسمُ فعلٍ معناه: بَعُدَ، وكُرِّر للتوكيدِ، فليسَتِ المسألةُ من التنازعِ. قال جرير:
3413ـ فهيهاتَ هيهاتَ العَقيقُ وأهلُه     وهيهاتَ خِلٌّ بالعقيقِ نُواصِلُهْ
وفَسَّره الزجَّاجُ في ظاهر عبارتِه بالمصدرِ فقال: " البُعْدُ لِما تُوعدون، أو بَعُدَ لِما توعدون ". فظاهرُها أنَّه مصدرٌ بدليلِ عَطْفِ الفعل عليه. ويمكنُ أَنْ يكونَ فَسَّر المعنى فقط. و " هيهاتَ " اسمُ فعلٍ قاصرٍ يرفعُ الفاعلَ، وهنا قد جاء ما ظاهرُه الفاعلُ مجروراً باللامِ: فمنهم مَنْ جعله على ظاهِره وقال: " ما توعدون " فاعلٌ به، وزِيْدت فيه اللامُ. التقديرُ: بَعُدَ بَعُدَ ما تُوْعَدُون. وهو ضعيفٌ إذ لم يُعْهَدْ زيادتُها في الفاعلِ. ومنهم مَنْ جَعَل الفاعلَ مضمراً لدلالةِ الكلامِ عليه، فقَدَّره أبو البقاء: " هيهاتَ التصديقُ أو الصحةُ لِما تُوْعَدون ". وقدَّره غيرُه: بَعُدَ إخراجُكم، و " لِما تُوْعدون " للبيانِ. قال/ الزمخشريُّ: " لبيانِ المُسْتَبْعَدِ ما هو بَعْدَ التصويبِ بكلمةِ الاستبعادِ؟ كما جاءَتِ اللامُ فيهَيْتَ لَكَ } [يوسف: 23] لبيانِ المُهَيَّتِ به ". وقال الزجاج: " البُعْدُ لِما تُوعدون " فجعله مبتدأً، والجارُّ بعدَه الخبرُ. قال الزمخشري: " فإنْ قلت: ما تُوعدون هو المستبعَدُ، ومِنْ حَقِّه أَنْ يرتفع بـ " هيهاتَ " كما ارتفع بقولِه:
فهيهاتَ هيهاتَ العَقيقُ وأهلُه     ..........................
فما هذه اللام؟ قلت: قال الزجاجُ في تفسيرِه: " البُعْدُ لِما تُوْعَدون، أو بُعْدٌ لِما تُوْعَدون فيمَنْ نَوَّن فَنَزَّلَه مَنْزِلَةَ المصدر ". قال الشيخ: " وقولُ الزمخشري: فَمَنْ نَوَّنَه نَزَّله منزلةَ المصدرِ، ليس بواضحٍ، لأنهم قد نَوَّنوا أسماءَ الأفعال ولا نقول: إنها إذا نُوِّنَتْ تَنَزَّلَتْ منزلةَ المصادر ". قلت: الزمخشريُّ لم يَقُل كذا، إنما قال فيمن نَوَّن نَزَّله منزلةَ المصدرِ لأجلِ قولِه: " أو بُعْدٌ " فالتنوينُ علةٌ لتقديره إياه نكرةً لا لكونِه مُنَزَّلاً منزلةَ المصدرِ؛ فإنَّ أسماءَ الأفعال ما نُوِّن منها نكرةٌ، وما لم يُنَوَّنْ معرفةٌ نحو: صَهْ وصَهٍ، تقديرُ الأول بالسكوت، والثاني بسكوتٍ ما.

وقال ابن عطية: " طَوْراً تلي الفاعلَ دون لامٍ، تقول: هيهات مجيءُ زيدٍ أي: بَعُدَ، وأحياناً يكون الفاعلُ محذوفاً عند اللام كهذه الآيةِ. التقديرُ: بَعُدَ الوجودُ لِما تُوْعدون ". ولم يَسْتَجْوِزْه الشيخُ ومن حيث قولُه حُذِفَ الفاعلُ، والفاعلُ لا يُحْذَفُ. ومن حيث إن فيه حَذْفَ المصدرِ ـ وهو الوجودُ ـ وإبقاءَ معمولِه وهو " لِما تُوعدون ". وهيهاتَ الثاني تأكيدٌ للأولِ تأكيداً لفظياً. وقد جاء غيرَ مؤكَّدٍ كقوله:
3414ـ هيهات مَنْزِلُنا بنَعْفِ سُوَيْقَةٍ     كانت مباركةً على الأيام
وقال آخر:
3415ـ هيهاتَ ناسٌ مِنْ أُناسٍ ديارُهُمْ     دُقاقٌ ودارُ الآخرين الأوانسُ
وقال رؤبة:
3416ـ هيهاتَ مِنْ مُنْخَرِقٍ هَيْهاؤه   
قال القيسي شارحُ " أبيات الإِيضاح ": " وهذا مِثْلُ قولِك: بَعُدَ بُعْدُه؛ وذلك أنه بنىٰ من هذه اللفظةِ فَعْلالاً، فجاء به مجيءَ القَلْقَال والزَّلْزال.

السابقالتالي
2 3