الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱلْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِّن شَعَائِرِ ٱللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَٱذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ عَلَيْهَا صَوَآفَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ ٱلْقَانِعَ وَٱلْمُعْتَرَّ كَذٰلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }

عطف على جملةولكل أمة جعلنا منسكاً } الحج 34 أي جعلنا منسكاً للقربان والهدايا، وجعلنا البدن التي تُهدى ويتقرب بها شعائرَ من شعائر الله.والمعنى أنّ الله أمر بقربان البُدْن في الحجّ من عهد إبراهيم - عليه السلام - وجعلها جزاء عما يترخص فيه من أعمال الحجّ. وأمر بالتطوع بها فوعد عليها بالثواب الجزيل فنالت بذلك الجَعل الإلهي يُمناً وبركة وحرمة ألحقتها بشعائر الله، وامتن بذلك على الناس بما اقتضته كلمة { لكم }.والبدن جمع بَدنَة بالتحريك، وهي البعير العظيم البَدن. وهو اسم مأخوذ من البَدانة، وهي عِظم الجثّة والسمن، وفعله ككرم ونصر، وليست زنة بدنة وصفاً ولكنها اسم مأخوذ من مادة الوصف، وجمعه بُدْن. وقياس هذا الجمع أن يكون مضموم الدال مثل خُشُب جمع خشبة، وثُمرُ جمع ثَمرة، فتسكين الدال تخفيف شائع، وغلب اسم البدنة على البعير المعيّن للهدي.وفي «الموطأ» عن أبي هُريرة " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً يسوق بدنة فقال اركَبْها، فقال إنها بدنة، فقال اركَبْها، فقال إنها بدنة، فقال اركبْها ويلك في الثانية أو الثالثة " فقول الرجل إنها بدنة، متعين لإرادة هديه للحجّ.وتقديم { البُدن } على عامله للاهتمام بها تنويهاً بشأنها.والاقتصار على البدن الخاصِ بالإبل لأنها أفضل في الهَدي لكثرة لحمها، وقد ألحقت بها البقر والغنم بدليل السنّة، واسم ذلك هَدي.ومعنى كونها من شعائر الله أنّ الله جعلها معالم تؤذن بالحج وجعل لها حرمة. وهذا وجه تسميتهم وضع العلامة التي يعلّم بها بعير الهَدْي في جلده إشعاراً.قال مالك في «الموطأ» «كان عبد الله بن عمر إذا أهدى هدْياً من المدينة قلّده وأشعره بذي الحليفة، يقلّده قبل أن يُشعره... يقلده بنعلين ويشعره من الشق الأيسر...» بطعن في سنامه فالإشعار إعداد للنحر.وقد عدها في جملة الحرمات في قوله { لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي } في سورة العقود 2.وتقديم { لكم } على المبتدأ ليتأتى كون المبتدأ نكرة ليفيد تنوينه التعظيم، وتقديم { فيها } على متعلّقه وهو { خير } للاهتمام بما تجمعه وتحتوي عليه من الفوائد.والخير النّفع، وهو ما يحصل للناس من النفع في الدنيا من انتفاع الفقراء بلحومها وجلودها وجِلالها ونعالها وقَلائدها. وما يحصل للمُهدين وأهلهم من الشبع من لحمها يوم النّحر، وخير الآخرة من ثواب المُهدين، وثواب الشكر من المعطَيْن لحومَها لربّهم الذي أغناهم بها.وفرع على ذلك أن أمَرَ الناس بأن يذكروا اسم الله عليها حين نحرها.وصوافّ جمع صافّة. يقال صف إذا كان مع غيره صفّا بأن اتّصل به. ولعلّهم كانوا يصفُّونها في المنحر يوم النّحر بمِنى، لأنه كان بمِنى موضع أُعدّ للنحر وهو المنحَر.وقد ورد في حديث مسلم " عن جابر بن عبدالله في حجّة الوداع قال فيه «ثم انصرف رسول الله إلى المنحرَ فنحر رسول الله- صلى الله عليه وسلم - بيده ثلاثاً وستين بَدنة جعل يطعنها بحَربة في يده ثم أعطى الحربة عليّاً فنحر ما غَبَر، أي ما بقي وكانت مائة بدنة» "

السابقالتالي
2 3