الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ سُبْحَانَ ٱلَّذِي خَلَق ٱلأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ ٱلأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ }

كلمة { سُبْحَانَ } [يس: 36] تعني: التنزيه المطلق لواجب الوجود الأعلى عن أنْ تحكمه قوانين الموجود نفسه لذلك تُقال في كل أمر عجيب كما في قصة الإسراء والمعراج، فقد استهلَّ القرآنُ سورة الإسراء بقوله تعالىسُبْحَانَ ٱلَّذِى أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ } [الإسراء: 1] فالإسراء بسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى بيت المقدس، ثم الصعود به إلى السماء السابعة في جزء في الليل يُعَدُّ أمراً عجيباً، وينبغي ألاَّ نقيسَ هذا الفعل على قوتنا نحن، بل على قوة الفاعل لأن الفعل يجب أنْ يُقارن بقوة فاعله قوةً وضعفاً. وسبق أنْ قُلْنا لتوضيح هذه المسألة: إنني لو قلتُ: صعدتُ بابني الصغير قمة افرست مثلاً، أتقول لي: كيف صعد ولدك الصغير قمة افرست؟ فالحق سبحانه في قولهسُبْحَانَ ٱلَّذِى أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ } [الإسراء: 1] يقول لنا: لا تتعجبوا من هذه المسألة لأن محمداً لم يَقُل سريتُ، إنما قال: أُسْرِي بي، فأنا الذي أسريت به وأنا مُنَزَّه عن الزمان، ومُنزه عن المكان وعن القوة، وإذا كان كل فعل يُقاس زمنه بقوة فاعله فَقِسِ الزمن على الفاعل الأعلى سبحانه، وعندها ستجد لا زمن. وقلنا: إنك حين تذهب إلى الإسكندرية مثلاً ماشياً تستغرق عدة أيام، أمّا بالسيارة فتستغرق عدة ساعات، وبالطائرة عدة دقائق، وبالصاروخ ثواني، إذن: كلما زادت القوة قَلَّ الزمن، وعلى هذا قِس الإسراء والمعراج. لذلك تجد أن هذه الكلمةسُبْحَانَ } [الإسراء: 1] لا تُقَال ولم تُقَل من قبل إلا لله تعالى، مع كثرة الجبابرة في الأرض، ومع وجود مَنِ ادعى الألوهية، ومَن قال: أنا ربكم الأعلى ومع ذلك لم تُقَلْ إلا لله لذلك نقول في ذكر الله: سبحانك ولا تُقال إلا لك، لماذا؟ لأنها تعني التنزيه المطلق، وهو لا يكون إلا لله. وكلمة سبحان مصدر يعني: لله سبحان أي تنزيه قبل أن يوجد مَنْ ينزهه، فهو مُنزَّه في ذاته قبل أنْ يوجد مَنْ يقول سبحان الله، كما أنه تعالى خالق قبل أنْ يخلق، ورازق قبل أنْ يرزق أحداً، فالصفة موجودة فيه سبحانه قبل أنْ يُوجد لها متعلق، كما تقول: فلان شاعر، أهو شاعر لأنه قال قصيدة رائعة، أم هو شاعر قبل أنْ يقولها؟ نعم هو شاعر قبل أن يقول القصيدة، ولولا موهبة الشعر عنده ما قالها. إذن: فصفات الكمال كلها موجودة لله تعالى قبل أنْ يوجد لها متعلق لأن هذه الصفات هي التي أوجدتْ متعلقها. وكما ذكر القرآن كلمة المصدر سبحان ذكر المشتق منها من الماضي، فقال سبحانه:سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ } [الحشر: 1]. وذكر المضارع في قوله تعالى:يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ } [الجمعة: 1]. إذن: الحق سبحانه مُسبَّح قبل أنْ يخلق الخَلْق، ثم لما خلق الخَلْق سبحتْ له كلُّ المخلوقات، وما زالت تُسبِّح وستظل تُسبِّح، فما دام الكون كله مُسبِّحاً فلا تخرج أنت عن هذه المنظومة، وسبِّح معها:

السابقالتالي
2 3 4