الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ ٱلرَّحْمَـٰنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ }

ابتدئت السورة بالتنويه بالقرآن ووصفِه بأنه ذكر وبيان للنّاس، ووصف عناد المشركين في الصدّ عنه والإعراض، وأُعلموا بأن الله لا يتركُ تذكيرهم ومحاجّتهم لأنّ الله يدعو بالحق ويعد به.وأطنب في وصف تناقض عقائدهم لعلهم يستيقظون من غشاوتهم، وفي تنبيههم إلى دلائل حقّيّة ما يدعوهم إليه الرّسول صلى الله عليه وسلم بهذا القرآن، وفُضحت شبهاتهم بأنهم لا تعويل لهم إلا على ما كان عليه آباؤهم الأولون الضالّون، وأنذروا باقتراب انتهاء تمتيعهم وإمهالهم، وتقضى ذلك بمزيد البيان، وأفضى الكلام إلى ما قالوه في القرآن ومن جاء به بقولهولما جاءهم الحق قالوا هذا سحر } الزخرف 30 إلى قولهعظيم } الزخرف 31، وما ألحق به من التكملات، عاد الكلام هنا إلى عواقب صرفهم عقولهم عن التدبر في الدعوة القرآنية فكان انصرافهم سبباً لأن يسخر الله شياطين لهم تلازمهم فلا تزال تصرفهم عن النظر في الحق وأدلة الرشد. وهو تسخير اقتضاه نظام تولد الفروع من أصولها، فلا يتعجب من عمى بصائرهم عن إدراك الحق البيّن، وهذا من سنة الوجود في تولد الأشياء من عناصرها فالضلال ينمى ويتولد في النفوس ويتمكن منها مرة بعد مرة حتى يصير طبْعاً على القلب وأكنَّة فيه وختماً عليه ولا يضعُف عمل الشيطان إلا بتكرر الدعوة إلى الحق وبالزجر والإنذار، فمن زناد التذكير تنقدح شرارات نور فربّما أضاءت فصادفت قوةُ نور الحق حالةَ وهَن الشيطان فتتغلب القوة المَلكية على القوة الشيطانية فيفيق صاحبها من نومة ضلاله. وقد أشار إلى ذلك قولهأفنضرب عنكم الذكر صفحاً أن كنتم قوماً مسرفين } الزخرف 5 كما تقدم هنالك، ولولا ذلك لَمَا ارعوى ضالّ عن ضلاله ولمَا نفع إرشاد المرشدين في نفوس المخاطبين.فجملة { ومن يعش عن ذكر الرحمٰن } عطف على جملةولما جاءهم الحق قالوا هذا سحرٌ } الزخرف 30 الآية.وقوله { ومن يعش عن ذكر الرحمٰن } تمثيل لحالهم في إظهارهم عدم فهم القرآن كقولهمقلوبنا في أكِنَّةٍ مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقرٌ } فصلت 5 بحال من يَعشو عن الشيء الظاهر للبصر.و { يَعش } مضارع عشا كغَزَا عَشْواً بالواو، إذا نظر إلى الشيء نظراً غير ثابت يُشبه نظر الأعشى، وأما العَشَا بفتح العين والشين فهو اسم ضُعف العين عن رؤية الأشياء، يقال عَشِي بالياء مثل عرِج إذا كانت في بصره آفة العَشَا ومصدره عَشًى بفتح العين والقصر مثل العرج. والفعل واوي عشا يعشو، ويقال عشِيَ يعشَى إذا صار العَشا له آفة لأن أفعال الأدواء تأتي كثيراً على فَعِل بكسر العين مثل مرِض. وعشِي ياؤه منقلبة عن واو لأجل كسرة صيغة الأدواء.فمعنى { ومن يعش } من ينظر نظراً غير متمكن في القرآن، أي من لا حظّ له إلا سماع كلمات القرآن دون تدبر وقصد للانتفاع بمعانيه، فشبه سماع القرآن مع عدم الانتفاع به بنظر الناظر دون تأمل.

السابقالتالي
2 3