الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ أَيَحْسَبُ ٱلإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى }

استئناف ابتدائي عاد به الكلام إلى الاستدلال على إمكان البعث وهو ما ابتُدىء به فارتبط بقولهأيحسب الإِنسان أن لن نجمع عظامه } القيامة 3 فكأنه قيل أيحسب أن لن نجمع عظامه ويحسبُ أن نتركه في حالة العدم. وزيد هنا أن مقتضى الحكمة الإِلٰهية إيقاعُه بقوله { أن يُترك سُدى } كما ستعلمه. والاستفهام إنكاري مثل الذي سبقه في قوله تعالىأيحسب الإِنسان أن لن نجمع عظامه } القيامة 3. وأصل معنى الترك مفارقة شيء شيئاً اختياراً من التَّارك، ويطلق مجازاً على إهمال أحد شيئاً وعدم عنايته بأحواله وبتعهده، وهو هنا مستعمل في المعنى المجازي. والمراد بما يترك عليه الإِنسان هنا ما يدل عليه السياق، أي حالَ العدم دون إحياء مما دل عليه قوله تعالىأيحسب الإِنسان أن لن نجمع عظامه } القيامة 3 وقولهيُنَبَّأُ الإِنسان يومئذٍ بما قدَّم وأخر } القيامة 13. وعُدل عن بناء فعل يَترك للفاعل فبني للنائب إيجازاً لأجل العلم بالفاعل من قوله السابق { أن لن نجمع عظامه } فكأنه قال أيحسب الإِنسان أن نتركه دون بعث وأن نهمل أعماله سدى. فجاء ذِكر { سُدى } هنا على طريقة الإِدماج فيما سيق له الكلام، إيماء إلى أن مقتضى حكمة خلق الإِنسان أن لا يتركه خالقه بعد الموت فلا يحييه ليجازِيه على ما عَمِله في حياته الأولى. وفي إعادة { أيحسب الإنسان } تهيئة لما سيعقب من دليل إمكان البعث من جانب المادة بقولهألم يك نطفة } القيامة 37 إلى آخر السورة. فقوله { أيحسب الإِنسان أن يترك سدى } تكرير وتعداد للإِنكار على الكافرين تكذيبهم بالعبث، ألا ترى أنه وقع بعد وصف يوم القيامة وما فيه من الحساب على ما قدّم الإِنسان وأخّر. ومعنى هذا مثل قوله تعالىأفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون } المؤمنون 115. و { سُدى } بضم السين وبالقصر اسم بمعنى المهمل ويقال سَدى بفتح السِّين والضمُّ أكثر وهو اسم يستوي فيه المفرد والجمع يقال إبل سُدًى، وجمل سُدًى ويشتق منه فعل فيقال أسْدى إبله وأسديت إِبلي، وألفه منقلبة عن الواو. ولم يفسر صاحب «الكشاف» هذه الكلمة وكذلك الراغب في المفردات ووقع { سُدى } في موضع الحال من ضمير { يُترك }. فإن الذي خلق الإِنسان في أحسن تقويم وأبدَعَ تركيبه ووهبه القوى العقلية التي لم يعطها غيره من أنواع الحيوان لِيستعملها في منافعَ لا تنحصر أو في ضد ذلك مِن مفاسد جسيمة، لا يليق بحكمته أن يهمله مثل الحيوان فيجعل الصالحين كالمفسدين والطائعين لربهم كالمجرمين، وهو العليم القدير المتمكن بحكمته وقدرته أن يجعل إليهِ المصير، فلو أهمله لفاز أهل الفساد في عالم الكساد، ولم يلاق الصالحون من صلاحهم إلاّ الأَنكاد، ولا يناسب حكمة الحكيم إهمال الناس يَهِيمُون في كل وادي، وتركُهم مَضرباً لقولِ المثل «فإنّ الريح للعادِي».

السابقالتالي
2