الرئيسية - التفاسير


* تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ هَـٰذَا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ } * { وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ } * { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ }

نصب الأعمش يوم أي هذا الذي قص عليكم واقع يومئذ، اعلم أن هذا هو النوع السادس: من أنواع تخويف الكفار وتشديد الأمر عليهم، وذلك لأنه تعالى بين أنه ليس لهم عذر ولا حجة فيما أتوا به من القبائح، ولا قدرة لهم على دفع العذاب عن أنفسهم، فيجتمع في حقه في هذا المقام أنواع من العذاب أحدها: عذاب الخجالة، فإنه يفتضح على رءوس الأشهاد، ويظهر لكل قصوره وتقصيره وكل من له عقل سليم، علم أن عذاب الخجالة أشد من القتل بالسيف والاحتراق بالنار وثانيها: وقوف العبد الآبق على باب المولى ووقوعه في يده مع علمه بأنه الصادق الذي يستحيل الكذب عليه، على ما قال:مَا يُبَدَّلُ ٱلْقَوْلُ لَدَىَّ } [ق:29] وثالثها: أنه يرى في ذلك الموقف خصماءه الذين كان يستخف بهم ويستحقرهم فائزين بالثواب والتعظيم، ويرى نفسه فائزاً بالخزي والنكال، وهذه ثلاثة أنواع من العذاب الروحاني ورابعها: العذاب الجسماني وهو مشاهدة النار وأهوالها نعوذ بالله منها فلما اجتمعت في حقه هذه الوجوه من العذاب بل ما هو مما لا يصف كنهه إلا الله، لا جرم قال تعالى في حقهم: { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ } وفي الآية سؤالان: الأول: كيف يمكن الجمع بين قوله: { هَـٰذَا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ } وقوله:ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ عِندَ رَبّكُمْ تَخْتَصِمُونَ } [الزمر:31] وقوله:وَٱللَّهِ رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } [الأنعام:23] وقوله:وَلاَ يَكْتُمُونَ ٱللَّهَ حَدِيثاً } [النساء:42] ويروى أن نافع بن الأزرق سأل ابن عباس عن هذا السؤال والجواب: عنه من وجوه أحدها: قال الحسن: فيه إضمار، والتقدير: هذا يوم لا ينطقون فيه بحجة، ولا يؤذن لهم فيعتذرون، لأنه ليس لهم فيما عملوه عذر صحيح وجواب مستقيم، فإذا لم ينطقوا بحجة سليمة وكلام مستقيم فكأنهم لم ينطقوا، لأن من نطق بما لا يفيد فكأنه لم ينطق، ونظيره ما يقال لمن ذكر كلاماً غير مفيد: ما قلت شيئاً وثانيها: قال الفراء: أراد بقوله: { يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ } تلك الساعة وذلك القدر من الوقت الذي لا ينطقون فيه، كما يقول: آتيك يوم يقدم فلان، والمعنى ساعة يقدم وليس المراد باليوم كله، لأن القدوم إنما يكون في ساعة يسيرة، ولا يمتد في كل اليوم وثالثها: أن قوله: { لاَ يَنطِقُونَ } لفظ مطلق، والمطلق لا يفيد العموم لا في الأنواع ولا في الأوقات، بدليل أنك تقول: فلان لا ينطق بالشر ولكنه ينطق بالخير، وتارة تقول: فلان لا ينطق بشيء ألبتة، وهذا يدل على أن مفهوم لا ينطق قدر مشترك بين أن لا ينطق ببعض الأشياء، وبين أن لا ينطق بكل الأشياء، وكذلك تقول: فلان لا ينطق في هذه الساعة، وتقول: فلان لا ينطق ألبتة، وهذا يدل على أن مفهوم لا ينطق مشترك بين الدائم والموقت، وإذا كان كذلك فمفهوم لا ينطق يكفي في صدقه عدم النطق ببعض الأشياء وفي بعض الأوقات، وذلك لا ينافي حصول النطق بشيء آخر في وقت آخر، فيكفي في صدق قوله: { لاَ يَنطِقُونَ } أنهم لا ينطقون بعذر وعلة في وقت السؤال، وهذا الذي ذكرناه إشارة إلى صحة الجوابين الأولين بحسب النظر العقلي، فإن قيل: لو حلف لا ينطق في هذا اليوم، فنطق في جزء من أجزاء اليوم يحنث؟ قلنا: مبني الأيمان على العرف، والذي ذكرناه بحث عن مفهوم اللفظ من حيث إنه هو ورابعها: أن هذه الآية وردت عقيب قول خزنة جهنم لهم { ٱنطَلِقُواْ إِلَىٰ ظِلّ ذِى ثَلَـٰثِ شُعَبٍ } فينقادون ويذهبون، فكأنه قيل: إنهم كانوا يؤمرون في الدنيا بالطاعات فما كانوا يلتفتون.

السابقالتالي
2 3