الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَكَذٰلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيّاً وَلَئِنِ ٱتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ مَا جَآءَكَ مِنَ ٱلْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ ٱللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ وَاقٍ }

اعتراض وعطف على جملةوالذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك } الرعد 36 لما ذكر حال تلقي أهل الكتابين للقرآن عند نزوله عُرج على حال العرب في ذلك بطريقة التعريض بسوء تلقي مشركيه له مع أنهم أولَى الناس بحسن تلقيه إذ نزل بلسانهم مشتملاً على ما فيه صلاحهم وتنوير عقولهم. وقد جُعل أهم هذا الغرض التنويهَ بعلوّ شأن القرآن لفظاً معنى. وأدمج في ذلك تعريض بالمشركين من العرب. والقول في اسم الإشارة في قوله { وكذلك } مثل ما تقدم في قولهكذلك أرسلناك في أمة } سورة الرعد 30. وضمير الغائب في { أنزلناه } عائد إلى { ما أنزل إليك } في قوله { يفرحون بما أنزل إليك }. والجار والمجرور من اسم الإشارة نائب عن المفعول المطلق. والتقدير أنزلناه إنزالاً كذلك الإنزال. و { حكماً عربياً } حالان من ضمير { أنزلناه }. والحكم هنا بمعنى الحكمة كما في قولهوآتيناه الحكم صبيا } سورة مريم 12. وجُعل نفس الحكم حالاً منه مبالغة. والمراد أنه ذو حكم، أي حكمة. والحكمة تقدمت. و { عربياً } حال ثانية وليس صفة لــــ { حكماً } إذ الحكمة لا توصف بالنسبة إلى الأمم وإنما المعنى أنه حكمة معبر عنها بالعربية. والمقصود أنه بلغة العرب التي هي أفصح اللغات وأجملها وأسهلها، وفي ذلك إعجازه. فحصل لهذا الكتاب كمالان كمال من جهة معانيه ومقاصده وهو كونه حكماً، وكمال من جهة ألفاظه وهو المكنى عنه بكونه عربياً، وذلك ما لم يبلغ إليه كتاب قبله لأن الحكمة أشرف المعقولات فيناسب شرفها أن يكون إبلاغها بأشرف لغة وأصلحها للتعبير عن الحكمة، قال تعالىوإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين } سورة الشعراء 192-195. ثم في كونه عربياً امتنان على العرب المخاطبين به ابتداء بأنه بلغتهم وبأن في ذلك حسن سمعتهم، ففيه تعريض بأفن رأي الكافرين منهم إذ لم يشكروا هذه النعمة كما قال تعالىلقد أنزلنا إليكم كتاباً فيه ذكركم أفلا تعقلون } سورة الأنبياء 10. قال مالك فيه بقاء ذكركم. وجملة { ولئن اتبعت أهواءهم بعد ما جاءك من العلم } معترضة، واللام موطئة للقسم وضمير الجمع في قوله { أهواءهم } عائد إلى معلوم من السياق وهم المشركون الذين وجه إليهم الكلام. واتباع أهوائهم يحتمل السعي لإجابة طلبتهم إنزال آية غير القرآن تحذيراً من أن يسأل الله إجابتهم لما طلبوه كما قال لنوح ــــ عليه السلام ــــ { فلا تسألني ما ليس لك به علم إنّي أعظك أن تكون من الجاهلين }. ومعنى { ما جاءك من العلم } ما بلغك وعُلّمته، فيحتمل أن يراد بالموصول القرآن تنويهاً به، أي لئن شايعَتهم فسألَتنا آية غير القرآن بعد أن نزل عليك القرآن، أو بعد أن أعلمناك أنا غير متنازلين لإجابة مقترحاتهم.

السابقالتالي
2