الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ رَّبَّنَآ إِنَّيۤ أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ ٱلْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ فَٱجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ ٱلنَّاسِ تَهْوِىۤ إِلَيْهِمْ وَٱرْزُقْهُمْ مِّنَ ٱلثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ }

ونفهم من التعبير في هذه الآية أن المكانَ لا يصلح للزرع ذلك أنه أرض صَخْرية وليست أرضاً يمكن استصلاحها وقَوْل إبراهيم - عليه السلام -: { غَيْرِ ذِي زَرْعٍ.. } [إبراهيم: 37]. أي: لا أملَ في زراعتها بمجهود إنساني، وليس أمام تواجد الرزق في هذا المكان إلا العطاء الرباني. ولم يكُنْ اختيار المكان نتيجة بَحْثٍ من إبراهيم عليه السلام ولكن بتكليف إلهيّ، فسبحانه هو الذي أمر بإقامة القواعد من البيت المحرم، وهو مكان من اختيار الله، وليس من اختيار إبراهيم عليه السلام. وحين يقول إبراهيم عليه السلام: { عِندَ بَيْتِكَ ٱلْمُحَرَّمِ.. } [إبراهيم: 37]. فهذا يعني حيثية الرِّضا بالتكليف، وما دام هذا أمراً تكليفياً يجب أنْ يُنفّذ بعشق فهو يأخذ ثوابين اثنين ثواب حُبّ التكليف وثواب القيام بالتكليف. ولنا المثل في حكاية الرجل الذي قابله الأصمعي عند البيت الحرام، وكان يقول: " اللهم، إنِّي قد عصيتُك، ولكني أحب مَنْ يطيعك، فاجعلها قُرْبة لي ". فقال الأصمعي ما يعني أن الله لا بُدَّ أن يغفر لهذا الرجل لِحُسْن مسألته، ذلك أنه رجل قد فرح بحب التكليف ولو لم يَقُمْ به هو بل يقوم به غيره وهذا يُسعده. فالتكليف عندما يقوم به أيُّ إنسان فذلك أمر في صالح كل البشر، وكلنا نقول حين نُصلي ونقرأ الفاتحة:إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [الفاتحة: 5]. أي: أن كُلاً مِنّا يحشر نفسه في زمرة العابدين لعل الله يتقبّل من واحد فندخل كلنا في الصفقة ولذلك أقول لِمَنْ يرتكب معصية: عليك ألاّ تغضب، لأن هناك مَنْ يطيع الله بل افرح به لأن فرحَك بالمطيع لله دليلٌ على أنك تحبُّ التكليف، رغم أنك لا تقدر على نفسك، وفي هذا الحُبِّ كرامة لك. وقد قال إبراهيم - عليه السلام - عن الوادي الذي أمره الحق سبحانه أن يقيم فيه القواعد للبيت الحرام أنه وادٍ غير ذي زَرْع، وقد جاء هو إلى هذا المكان لِيُنفّذ تكليف الحق سبحانه له لدرجة أن زوجته هاجر عندما علمت أن الاستقرار في هذا المكان هو بتكليف من الله قالت: " إذنْ لن يضيعنا ". ويُقدِّم إبراهيم عليه السلام حيثيات الإقامة في هذا المكان، وأسباب إقامته للقواعد كما أراد الله، فيقول: { فَٱجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ ٱلنَّاسِ تَهْوِيۤ إِلَيْهِمْ.. } [إبراهيم: 37]. أي: أن مجيء الناس إلى هذا المكان لن يكون شهوةَ سياحة ولكن إقامة عبادة فما دام المكان قد أُقيم فيه بيت لله باختيار الله فلا بُدَّ أن يُعبدَ فيه سبحانه. وهكذا تتضح تماماً حيثيات أَخْذ الأمر بالوجود في مكان ليس فيه من أسباب الحياة ولا مُقوِّماتها شيء ولكن الحق سبحانه قد أمر بذلك فلا بُدَّ للمقيم للصلاة من إقامة حياة والمُقوِّم الأول للحياة هو المَأْكل والمَشْرب.

السابقالتالي
2