الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ ٱلَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَآ آتَاهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً } * { وَٱلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَـآءَ ٱلنَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَلاَ بِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَمَن يَكُنِ ٱلشَّيْطَانُ لَهُ قَرِيناً فَسَآءَ قِرِيناً } * { وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُواْ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَأَنْفَقُواْ مِمَّا رَزَقَهُمُ ٱللَّهُ وَكَانَ ٱللَّهُ بِهِم عَلِيماً }

يجوز أن يكون استئنافاً ابتدائياً، جيء به عقب الأمر بالإحسان لمن جرى ذكرهم في الجملة السابقة، ومناسبة إرداف التحريض على الإحسان بالتحذير من ضدهّ وما يشبه ضدّه من كلّ إحسان غير صالح فقوبل الخُلق الذي دعاهم الله إليه بأخلاق أهل الكفر وحِزب الشيطان كما دلّ عليه ما في خلال هذه الجملة من ذِكر الكافرين الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر. فيكون قوله { الذين يبخلون } مبتدأ، وحُذف خبره ودَلّ عليه قولُه { وأعتدنا للكافرين عذاباً مهيناً }. وقُصد العدول عن العطف لتكون مستقلّة، ولما فيه من فائدة العموم، وفائدة الإعلام بأنّ هؤلاء من الكافرين. فالتقدير الذين يبخلون أعتدنا لهم عذاباً مهينا وأعتدنا ذلك للكافرين أمثالهم، وتكون جملة { والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس } معطوفة أيضاً على جملة { والذين يبخلون } محذوفة الخبر أيضاً، يدلّ عليه قوله { ومن يكن الشيطان له قرينا } إلخ. والتقدير والذين ينفقون أموالهم رثاء الناس قرينهم الشيطان. ونكتة العدول إلى العطف مثل نكتة ما قبلها. ويجوز أن يكون { الذين يبخلون } بدلاَ من مَن في قولهمن كان مختالاً فخوراً } النساء 36 فيكون قوله { والذين ينفقون أموالهم } معطوفاً على { الذين يبخلون } ، وجملة { وأعتدنا } معترضة. وهؤلاء هم المشركون المتظاهرون بالكفر، وكذلك المنافقون. والبخل ــــ بضمّ الباء وسكون الخاء ــــ اسم مصدر بخل من باب فرح، ويقال البَخَل ــــ بفتح الباء والخاء ــــ وهو مصدره القياسي، قرأه الجمهور ــــ بضم الباء ــــ وقرأه حمزة، والكسائي، وخلَف ــــ بفتح الباء والخاء ــــ. والبخل ضدّ الجود وقد مضى عند قوله تعالىولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله } في سورة آل عمران 180. ومعنى { يأمرون الناس بالبخل } يحضّون الناس عليه، وهذا أشدّ البخل، قال أبو تمّام
وإنّ امرأ ضنّت يداه على امرىء بنيل يَدٍ من غيره لبخيل   
والكتمان الإخفاء. و { ما آتاهم الله من فضله } يحتمل أنّ المراد به المال، كقوله تعالىولا تحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله } آل عمران 180 فيكون المعنى أنّهم يبخلون ويعتذرون بأنّهم لا يجدون ما ينفقون منه، ويحتمل أنّه أريد به كتمان التوراة بما فيها من صفة النبي صلى الله عليه وسلم فعلى الاحتمال الأوّل يكون المراد بالذين يبخلون المنافقين، وعلى الثاني يكون المراد بهم اليهود وهذا المأثور عن ابن عباس. ويجوز أن تكون في المنافقين، فقد كانوا يأمرون الناس بالبخلهم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا } المنافقون 7. وقوله { وأعتدنا للكافرين عذاباً مهيناً } ، عَقِبَه، يؤذن بأنّ المراد أحد هذين الفريقين. وجملة { وأعتدنا للكافرين عذاباً مهيناً } معترضة. وأصل و { أعتدنا } أعددنا، أبدلت الدال الأولى تاء، لثقل الدالين عند فكّ الإدغام باتّصال ضمير الرفع، وهكذا مادّة أعدّ في كلام العرب إذا أدغموها لم يبدلوا الدال بالتاء لأنّ الإدغام أخفّ، وإذا أظهروا أبدلوا الدال تاء، ومن ذلك قولهم عَتاد لعُدّة السلاح، وأعْتُد جمع عتاد.

السابقالتالي
2