الرئيسية - التفاسير


* تفسير البحر المحيط/ ابو حيان (ت 754 هـ) مصنف و مدقق


{ بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَٱنْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلظَّالِمِينَ }

قال الزمخشري: بل كذبوا، بل سارعوا إلى التكذيب بالقرآن، وفاجأوه في بديهة السماع قبل أن يفهموه ويعلموا كنه أمره، وقبل أن يتدبروه ويفقهوا تأويله ومعانيه، وذلك لفرط نفورهم عما يخالف دينهم، وشرادهم عن مفارقة دين آبائهم. وقال ابن عطية: هذا اللفظ يحتمل معنيين: أحدهما: أن يريد بما الوعيد الذي توعدهم الله على الكفر، وتأويله على هذا يريد به ما يؤول إليه أمره كما هو في قوله:هل ينظرون إلا تأويله } [الأعراف: 53] والآية محملها على هذا التأويل يتضمن وعيداً، والمعنى الثاني: أنه أراد بل كذبوا بهذا القرآن العظيم المنبىء بالغيوب الذي لم يتقدّم لهم به معرفة، ولا أحاطوا بمعرفة غيوبه وحسن نظمه، ولا جاءهم تفسير ذلك وبيانه. وقال أبو عبد الله الرازي: يحتمل وجوهاً، الأول: كلما سمعوا شيئاً من القصص قالواأساطير الأوّلين } [الأنفال: 31، النحل: 24] ولم يعرفوا أن المقصود منها ليس نفس الحكاية، بل قدرته تعالى على التصرف في هذا العالم، ونقله أهله من عز إلى ذل، ومن ذل إلى عز، وبفناء الدنيا، فيعتبر بذلك. وأن ذلك القصص بوحي من الله، إذ أعلم بذلك على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف مع كونه لم يتعلم ولم يتتلمذ. الثاني: كلما سمعوا خروف التهجّي ولم يفهموا منها شيئاً ساء ظنهم، وقد أجاب الله بقوله:فيه آيات بينات } [آل عمران: 97] الآية. الثالث: ظهور القرآن شيئاً فشيئاً، فساء ظنهم وقالوا:لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة } [الفرقان: 32] وقد أجاب تعالى وشرح في مكانه. الرابع: القرآن مملوء من الحشر، وكانوا ألفوا المحسوسات، فاستبعدوا حصول الحياة بعد الموت، فبين الله صحة المعاد بالدلائل الكثيرة. الخامس: أنه مملوء من الأمر بالعبادات، وكانوا يقولون: إله العالم غني عن طاعتنا، وهو أجل أن يأمرنا بما لا فائدة له فيه. وأجاب تعالى بقوله:إن أحسنتم أحسنتم } [الإسراء: 7] الآية وبالجملة فشبه الكفار كثيرة، فلما رأوا القرآن مشتملاً على أمور ما عرفوا حقيقتها ولا اطلعوا على وجه الحكمة فيها كذبوا بالقرآن فقوله: بما لم يحيطوا بعلمه، إشارة إلى عدم علمهم بهذه الأشياء وقوله: ولما يأتهم تأويله، إشارة إلى عدم جهدهم واجتهادهم في طلب أسرار ما تضمنه القرآن انتهى ملخصاً.

وقال الزمخشري: (فإن قلت): ما معنى التوقع في قوله تعالى: ولم يأتهم تأويله؟ (قلت): معناه أنهم كذبوا به على البديهة قبل التدبر، ومعرفة التأويل تقليداً للآباء، وكذبوه بعد التدبر تمرداً وعناداً فذمهم بالتسرع إلى التكذيب قبل العلم به، وجاء بكلمة التوقع ليؤذن أنهم علموا بعد علوّ شأنه وإعجازه لما كرر عليهم التحدي ورازوا قواهم في المعارضة، واستيقنوا عجزهم عن مثله، فكذبوا به بغياً وحسداً انتهى.

السابقالتالي
2