الرئيسية - التفاسير


* تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة (ت 1224 هـ) مصنف و مدقق


{ فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُواْ قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ } * { عَنِ ٱلْيَمِينِ وَعَنِ ٱلشِّمَالِ عِزِينَ } * { أَيَطْمَعُ كُلُّ ٱمْرِىءٍ مِّنْهُمْ أَن يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ } * { كَلاَّ إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ } * { فَلآ أُقْسِمُ بِرَبِّ ٱلْمَشَٰرِقِ وَٱلْمَغَٰرِبِ إِنَّا لَقَٰدِرُونَ } * { عَلَىٰ أَن نُّبَدِّلَ خَيْراً مِّنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ } * { فَذَرْهُمْ يَخُوضُواْ وَيَلْعَبُواْ حَتَّىٰ يُلَٰقُواْ يَوْمَهُمُ ٱلَّذِي يُوعَدُونَ } * { يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ ٱلأَجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَىٰ نُصُبٍ يُوفِضُونَ } * { خَٰشِعَةً أَبْصَٰرُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ ٱلْيَوْمُ ٱلَّذِي كَانُواْ يُوعَدُونَ }

يقول الحق جلّ جلاله: { فَمَالِ الذين كفروا } ، وكُتب مفصولاً اتباعاً للمصحف، أي: أيُّ شيء حصل لهم حتى كانوا { قِبلك } أي: حولَك { مُهطِعينَ } مُسرعين، مادّين أعناقهم إليك، مقبلين بأبصارهم عليك، { عن اليمين وعن الشمال } أي: عن يمينك وشمالك { عِزينَ } متفرقين فرقاً شتّى. جمع: عِزَة، وأصلها: عِزوة، من العزو، فعُوِّضت التاء من الواو، كأنّ كل فرقة تُعزى إلى غير مَن تُعزى إليه الأخرى. والعزة: الفرقة القليلة، ثلاثة أو أربعة. كان المشركون إذا رأوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يصلي في الكعبة يقومون من مجالسهم مسرعين إليه، ويُحلِّقون حوله حِلقاً حِلقاً، وفِرقاً فِرقاً، يستمعون ويستهزئون بكلامه صلى الله عليه وسلم ويقولون: شاعر، كاهن، مفتر، ثم يقولون: إن دخل هؤلاء الجنة كما يقول محمد، فلندخلنها قبلهم، فنزلت: { أيَطْمَعُ كلُّ امرىءٍ منهم أن يُدخَلَ جنةَ نعيم } بلا أيمان. { كلاَّ } ، ردع لهم عن ذلك الطمع الفارغ، وهو دخولهم الجنة بلا إيمان { إِنَّا خلقناهم مما يعلمون } ، تعليل للردع، أي: إنَّا خلقناهم من نطفةٍ مَذِرة، فلا يستأهل الكرامة إلاَّ مَن تحلّى بالإيمان والطاعة، وكسا لوث بشريته بنور إيمانه، وحلّها بالتقوى، التي بها العز والشرف والارتفاع في أوج القُربى والكرامة التي محلها الجنة، إنما تكون بمخالفة الطبيعة، وغلبة الروح على الطينة الأرضية، والفرض لعدم ذلك منهم، فلا يطمعون في كرامات الروحانية، مع تمحُّض الطينة الجسمانية، فإنه محال بمقتضى الحكمة. قال أبو السعود: وقيل معناه: إنّا خلقناهم من نطفة مذرة، فمن أين يتشرّفون ويدّعون التقدُّم، ويقولون: لَندخلن الجنةّ قبلهم؟ والفرض أنهم مخلوقون من نطفة قذرة، لا تُناسب عالم القدس، فمَن لم يستكمل الإيمان والطاعة، ولم يتخلّق بأخلاق الملائكة، لم يتأهّل لدخولها. ثم قال: ولا يخفى ما في الكل من التمحُّل، والأقرب: أنه كلام مستأنف، سيق تمهيداً لِما بعده مِن بيان قدرته تعالى، على أن يهلكهم، لكفرهم بالبعث والجزاء، واستهزائهم برسول الله صلى الله عليه وسلم، وبما نزل عليه من الوحي، وادعائهم دخول الجنة بطريقة السخرية، وينشىء بدلهم قوماً آخرين، فإنَّ قدرته على ما يعلمون من النشأة الأولى حجة بيِّنة على قدرته تعالى على ذلك، كما يُفصح عنه الفاء الفصيحة في قوله تعالى: { فلا أُقسم بربِّ المشارِق والمغاربِ } ، والمعنى: إذا كان الأمر كما ذكرنا من أنّا خلقناهم مما يعلمون فأُقسم برب المشارق والمغارب { إِنَّا لقادِرون على أن نُبدِّل خيراً منهم } أي: نُهلكهم بالمرة، حسبما تقتضيه جنايتهم، ونأتي بدلهم بخلقٍ آخرين ليسوا على صفتهم. هـ. { وما نحن بمسبوقين } بعاجزين، أو بمغلوبين إن أردنا ذلك، لكن مشيئتَنا المبنية على الحِكمة البالغة اقتضت تأخير عقوبتهم. { فَذَرْهم } فدع المكذِّبين { يخوضوا } في باطلهم، التي من جملتها ما حكي عنهم، { ويلعبوا } في دنياهم { حتى يُلاقوا يومَهم الذي يوعدون } ، وهو يوم البعث عند النفخة الثانية، يدل عليه قوله تعالى: { يوم يَخرجون من الأجدَاثِ } القبور { سِراعاً } جمع سريع، وهو حال من ضمير " يَخرجون " أي: مسرعين إلى الداعي { كأنهم إِلى نُصُبٍ } ، وهو كل ما نُصب وعُبد من دون الله، وفيه السكون والفتح.

السابقالتالي
2