الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ مَّا جَعَلَ ٱللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ ٱللاَّئِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ ذَٰلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ وَٱللَّهُ يَقُولُ ٱلْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي ٱلسَّبِيلَ }

فيه خمس مسائل: الأولى: قال مجاهد: نزلت في رجل من قريش كان يدعى ذا القلبين من دهائه، وكان يقول: إن لي في جوفي قلبين، أعقل بكل واحد منهما أفضل من عقل محمد. قال: وكان من فِهْر. الواحديّ والقُشَيْرِيّ وغيرهما: نزلت في جميل بن معمر الفهري، وكان رجلاً حافظاً لما يسمع. فقالت قريش: ما يحفظ هذه الأشياء إلا وله قلبان. وكان يقول: لي قلبان أعقل بهما أفضل من عقل محمد. فلما هُزم المشركون يوم بدر ومعهم جميل بن معمر، رآه أبو سفيان في العير وهو معلّق إحدى نَعْلَيْه في يده والأخرى في رجله فقال أبو سفيان: ما حال الناس؟ قال انهزموا. قال: فما بال إحدى نعليك في يدك والأخرى في رجلك؟ قال: ما شعرت إلا أنهما في رجليّ فعرفوا أنه لو كان له قلبان لما نسي نعله في يده. وقال السُّهَيْلِيّ: كان جميل بن معمر الجُمَحيّ، وهو ابن معمر ابن حبيب بن وهب بن حُذافة بن جُمَح، واسم جمح: تَيْم وكان يدعى ذا القلبين فنزلت فيه الآية، وفيه يقول الشاعر:
وكيف ثوائي بالمدينة بعد ما   قضى وَطَراً منها جَمِيلُ بن معمر
قلت: كذا قالوا جميل بن معمر. وقال الزمخشريّ: جميل بن أسد الفهري. وقال ابن عباس: سببها أن بعض المنافقين قال: إن محمداً له قلبان لأنه ربما كان في شيء فنزع في غيره نزعة ثم عاد إلى شأنه الأوّل فقالوا ذلك عنه فأكذبهم الله عز وجل. وقيل: نزلت في عبد الله بن خَطَل. وقال الزهريّ وابن حبّان: نزل ذلك تمثيلاً في زيد بن حارثة لما تبنّاه النبيّ صلى الله عليه وسلم فالمعنى: كما لا يكون لرجل قلبان كذلك لا يكون ولد واحد لرجلين. قال النحاس: وهذا قول ضعيف لا يصح في اللغة وهو من منقطعات الزهريّ، رواه معمر عنه. وقيل: هو مثل ضرب للمُظاهر أي كما لا يكون للرجل قلبان كذلك لا تكون امرأة المُظاهر أمَّه حتى تكون له أُمّان. وقيل: كان الواحد من المنافقين يقول: لي قلب يأمرني بكذا، وقلب يأمرني بكذا فالمنافق ذو قلبين فالمقصود ردّ النفاق. وقيل: لا يجتمع الكفر والإيمان بالله تعالى في قلب، كما لا يجتمع قلبان في جوف فالمعنى: لا يجتمع اعتقادان متغايران في قلب. ويظهر من الآية بجملتها نفي أشياء كانت العرب تعتقدها في ذلك الوقت، وإعلام بحقيقة الأمر، والله أعلم. الثانية: القلب بَضْعة صغيرة على هيئة الصَّنَوْبَرة، خلقها الله تعالى في الآدميّ وجعلها محلاً للعلم، فيحصي به العبد من العلوم ما لا يسع في أسفار، يكتبه الله تعالى فيه بالخط الإلهيّ، ويضبطه فيه بالحفظ الرّباني، حتى يحصيه ولا ينسى منه شيئاً.

السابقالتالي
2