الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ ٱللَّهُ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ }

{ وَمَا أَرْسَلْنَا } أي في الأمم الخاليةِ من قبلك كما سيذكر إجمالاً { مِن رَّسُولٍ إِلاَّ } ملتبساً { بِلِسَانِ قَوْمِهِ } متكلماً بلغة من أُرسل إليهم من الأمم المتفقة على لغة سواءٌ بعث فيهم أو لا، وقرىء بلِسْنِ وهو لغة فيه كريش ورياش وبلُسُنْ بضمتين وضمة وسكون كعُمُد وعُمْد { لِيُبَيّنَ لَهُمُ } ما أمروا به فيتلقَّوه منه بـيُسر وسُرعة ويعملوا بموجبه من غير حاجة إلى الترجمة ممن لم يُؤمر به، وحيث لم يكن مراعاةُ هذه القاعدة في شأن سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين لعموم بعثتِه للثقلين كافةً على اختلاف لغاتِهم وكان تعددُ نظمِ الكتاب المنزل إليه حسب تعددِ ألسنة الأممِ أدعى إلى التنازع واختلافِ الكلمة وتطرّقِ أيدي التحريف ـ مع أن استقلال بعضٍ من ذلك بالإعجاز دون غيره مَئنّةٌ لقدح القادحين واتفاقَ الجميع فيه أمرٌ قريب من الإلجاء وحصرِ البـيانِ بالترجمة والتفسير ـ اقتضت الحكمةُ اتحادَ النظمِ المنبىء عن العزة وجلالةِ الشأن المستتبعِ لفوائدَ غنيةٍ عن البـيان، على أن الحاجة إلى الترجمة تتضاعف عند التعددِ إذ لا بد لكل أمةٍ من معرفة توافق الكلِّ وتحاذيه حذوَ القُذّة بالقذة من مخالفة ولو في خَصلة فذّة، وإنما يتم ذلك بمن يترجم عن الكل واحداً أو متعدداً وفيه من التعذر ما يتاخم الامتناعَ، ثم لما كان أشرفَ الأقوام وأولاهم بدعوته عليه الصلاة والسلام قومُه الذين بعث فيهم ولغتُهم أفضلَ اللغات نزل الكتابُ المتين بلسان عربـي مبـين، وانتشرت أحكامُه فيما بـين الأمم أجمعين، وقيل: الضمير في قومه لمحمد صلى الله عليه وسلم، فإنه تعالى أنزل الكتب كلَّها عربـيةً ثم ترجمها جبريلُ عليه الصلاة والسلام، أو كلُّ من نزل عليه من الأنبـياء عليهم السلام بلغة من نزل عليهم، ويرده قوله تعالى: { لِيُبَيّنَ لَهُمُ } فإنه ضميرُ القوم وظاهرٌ أن جميع الكتب لم تنزل لتبـيـين العرب وفي رَجْعه إلى قوم كل نبـي ـ كأنه قيل: وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومِ محمد عليه الصلاة والسلام ليبـين الرسولُ لقومه الذين أرسل إليهم ـ ما لا يخفى من التكلف { فَيُضِلُّ ٱللَّهُ مَن يَشَاء } إضلالَه أي يخلق فيه الضلالَ لمباشرة أسبابِه المؤدية إليه أو يخذله ولا يلطُف به لما يعلم أنه لا ينجع فيه الإلطاف { وَيَهْدِى } بالتوفيق ومنح الإلطاف { مَن يَشَآء } هدايتَه لما فيه من الإنابة والإقبال إلى الحق، والالتفاتُ بإسناد الفعلين إلى الاسم الجليل المنطوي على الصفات لتفخيم شأنِهما وترشيح مناطِ كل منهما، والفاء فصيحة مثلها في قوله تعالى:فَقُلْنَا ٱضْرِب بّعَصَاكَ ٱلْبَحْرَ فَٱنفَلَقَ } [الشعراء: 63] كأنه قيل: فبـيّنوه لهم فأضل الله منهم من شاء إضلالَه لما لا يليق إلا به وهدى من شاء هدايتَه لاستحقاقه لها، والحذفُ للإيذان بأن مسارعة كلِّ رسول إلى ما أمر به وجريانَ كلَ من أهل الخذلان والهدايةِ على سنته أمرٌ محققٌ غنيٌّ عن الذكر والبـيانِ.

السابقالتالي
2