الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ أُوْلۤـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ }

{ أُوْلۤـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُؤْمِنُونَ حَقّاً } أي: لا شك في إيمانهم. و { حَقّاً } صفة لمصدر محذوف، أي: إيماناً حقاً أو مصدر مؤكد للجملة، أي: حق ذلك حقاً، كقولك، هو عبد الله حقاً.

قال عَمْرو بن مرة (في هذه الآية): إنما أنزل القرآن بلسان العرب، كقولك: فلان سيّد حقاً، وفي القوم سادة. وفلان تاجر حقاً، وفي القوم تجار. وفلان شاعر حقاً، وفي القوم شعراء. انتهى.

وكأنه أراد الرد على من زعم أن { حَقّاً } من صلة قوله: { لَّهُمْ دَرَجَاتٌ } بعدُ، تأكيداً له، وأن الكلام تم عند قوله: { ٱلْمُؤْمِنُونَ } ، فإن هذا الزعم يصان عند أسلوب التنزيل الحكيم.

وقد تطرف بعض المفسرين هنا لمسألة شهيرة وهي: هل يجوز أن يقال: أنا مؤمن حقاً؟

قال الطوسيّ في (نقد المحصل): المعتزلة ومن تبعهم يقولون: اليقين لا يحتمل الشك والزوال، فقول القائل: (أنَّا مُؤْمِنٌ إِنْ شَاءَ اللهُ)، لا يصح إلا عند الشك، أو خوف الزوال. وما يوهم أحدهما، لا يجوز أن يقال للتبرك. انتهى.

والغزاليّ في الإحياء، بسط هذه المسألة، وأجاب عمن سوّغ ذلك بأجوبة: منها: التخوف من الخاتمة؛ لأن الإيمان موقوف على سلامة الخاتمة. ومنها: الإحتراز من تزكية النفس. ومنها: غير ذلك. انظره بطوله.

وقال ابن حزم في (الفِصَل): القول عندنا في هذه المسألة: أن هذه صفة يعلمها المرء من نفسه، فإن كان يدري أنه مصدّق بالله عز وجل، وبمحمد صلى الله عليه وسلم، وبكل ما أتى به، وأنه يقر بلسانه بكل ذلك، فواجب عليه أن يعترف بذلك، كما أمر تعالى في قوله:وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ } [الضحى: 11]. ولا نعمة أوكد ولا أفضل، ولا أولى بالشكر، من نعمة الإسلام، فواجب عليه أن يقول: أنا مؤمن مسلم قطعاً عند الله تعالى، في وقتي هذا. ولا فرق بين قوله: (أنا مؤمن مسلم) وبين قوله: (أنا أسود و أنا أبيض) وهكذا سائر صفاته التي لا يشك فيها، وليس هذا من باب الإمتداح والعجب في شيء، لأنه فرض عليه أن يحقن دمه بشهادة التوحيد. وقول ابن مسعود: " أَنَّا مُؤْمِنٌ إِنْ شَاءَ اللهُ " عندنا صحيح؛ لأن الإسلام والإيمان إسمان منقولان عن موضوعهما في اللغة، إلى جميع البر والطاعات. فإنما منع ابن مسعود الجزم على معنى أنه مستوف لجميع الطاعات، وهذا صحيح. ومن ادعى لنفسه هذا فقد كذب بلا شك، وما منع أن يقول المرء: " إِنِّي مُؤْمِنٌ " بمعنى (مصدق).

وأما قول المانعين: (من قال: أنا مؤمن، فليقل: إنه من أهل الجنة) فالجواب: إنا نقول إن متنا على ما نحن عليه الآن، فلا بد لنا من الجنة بلا شك. وبرهان ذلك أنه قد صح من نصوص القرآن والسنن والإجماع، أن من آمن بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وبكل ما جاء به، ولم يأت بما هو كفر، فإنه في الجنة.

السابقالتالي
2