الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ } * { إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ ٱلشِّتَآءِ وَٱلصَّيْفِ } * { فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هَـٰذَا ٱلْبَيْتِ } * { ٱلَّذِيۤ أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ }

افتتاح مُبدع إذ كان بمجرور بلام التعليل وليس بإثْره بالقرب ما يصلح للتعليق به ففيه تشويق إلى متعلق هذا المجرور. وزاده الطول تشويقاً إذ فصل بينه وبين متعلَّقه بالفتح بخمس كلمات، فيتعلق { لإيلاف } بقوله { فليعبدوا }. وتقديم هذا المجرور للاهتمام به إذ هو من أسباب أمرهم بعبادة الله التي أعرضوا عنها بعبادة الأصنام والمجرور متعلق بفعل «ليعبدوا». وأصل نظم الكلام لتَعْبُدْ قريشٌ ربَّ هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف لإيلافهم رحلة الشتاء والصيف، فلما اقتضى قصدُ الاهتمام بالمعمول تقديمه على عامله، تولَّدَ من تقديمه معنى جعله شرطاً لعامله فاقترن عامله بالفاء التي هي من شأن جواب الشرط، فالفاء الداخلة في قوله { فليعبدوا } مؤذنة بأن ما قبلها في قوة الشرط، أي مؤذنة بأن تقديم المعمول مقصود به اهتمام خاص وعناية قوية هي عناية المشترط بشرطه، وتعليق بقية كلامه عليه لما ينتظره من جوابه، وهذا أسلوب من الإِيجاز بديع. قال في «الكشاف» دخلت الفاء لما في الكلام من معنى الشرط لأن المعنى إمَّا لاَ فليعبدوه لإِيلافهم، أي أن نعم الله عليهم لا تحصى فإن لم يعبدوه لسائر نعمه فليعبدوه لهذه الواحدة التي هي نعمة ظاهرة اهــــ. وقال الزجاج في قوله تعالىوربك فكبر } المدثر 3 دخلت الفاء لمعنى الشرط كأنه قيل وما كان فلا تَدَعْ تكبيره اهــــ. وهو معنى ما في «الكشاف». وسكتا عن منشإ حصول معنى الشرط وذلك أن مثل هذا جار عند تقديم الجار والمجرور، ونحوه من متعلقات الفعل وانظر قوله تعالىوإياي فارهبون } في سورة البقرة 40، ومنه قوله تعالىفبذلك فليفرحوا } في سورة يونس 58 وقولهفلذلك فادع واستقم } في سورة الشورى 15. وقول النبي للذي سأله عن الجهاد فقال له ألك أبوان؟ فقال نعم. قال ففيهما فجاهدْ. ويجوز أن تجعل اللام متعلقة بفعل اعْجَبوا محذوفاً ينبىء عنه اللام لكثرة وقوع مجرور بها بعد مادة التعجب، يقال عجباً لك، وعجباً لتلك قضية، ومنه قول امرىء القيس فيا لَكَ من ليل لأن حرف النداء مراد به التعجب فتكون الفاء في قوله { فليعبدوا } تفريعاً على التعجيب. وجوّز الفراء وابن إسحاق في «السيرة» أن يكون { لإيلاف قريش } متعلقاً بما في سورة الفيل 5 من قولهفجعلهم كعصف مأكول } قال القرطبي وهو معنى قول مجاهد ورواية ابن جبير عن ابن عباس. قال الزمخشري وهذا بمنزلة التضمين في الشعر وهو أن يتعلق معنى البيت بالذي قبله تعلقاً لا يصح إلاّ به ا هـ. يعنون أن هذه السورة وإن كانت سورة مستقلة فهي ملحقة بسورة الفيل فكما تُلحق الآية بآية نزلت قبلها، تلحق آيات هي سورة فتتعلق بسورة نزلت قبلها. والإِيلاف مصدر أألف بهمزتين بمعنى ألف وهما لغتان، والأصل هو ألف، وصيغة الإِفعال فيه للمبالغة لأن أصلها أن تدل على حصول الفعل من الجانبين، فصارت تستعمل في إفادة قوة الفعل مجازاً، ثم شاع ذلك في بعض الأفعال حتى ساوى الحقيقة مثل سَافَر، وعافَاه الله، وقاتَلَهُم الله.

السابقالتالي
2 3 4 5 6