الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِيۤ إِبْرَاهِيمَ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُواْ لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءآؤُاْ مِّنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ ٱلْعَدَاوَةُ وَٱلْبَغْضَآءُ أَبَداً حَتَّىٰ تُؤْمِنُواْ بِٱللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَآ أَمْلِكُ لَكَ مِنَ ٱللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ ٱلْمَصِيرُ }

{ قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِىۤ إِبْرَٰهِيمَ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُواْ لِقَوْمِهِمْ إِنَّا }. صدر هذه الآية يفيد تأكيداً لمضمون جملةإن يثقفوكم } الممتحنة 2 وجملةلن تنفعكم أرحامكم } الممتحنة 3، لأنها بما تضمنته من أن الموجه إليهم التوبيخ خالفوا الأسوةَ الحسنة تقوي إثبات الخطأ المستوجب للتوبيخ. ذلك أنه بعد الفراغ من بيان خطأ من يوالي عدوَّ الله بما يجرّ إلى أصحابه من مضارّ في الدنيا وفي الآخرة تحذيراً لهم من ذلك، انتقل إلى تمثيل الحالة الصالحة بمثال من فعل أهل الإِيمان الصادق والاستقامة القويمة وناهيك بها أسوة. وافتتاح الكلام بكلمتي { قد كانت } لتأكيد الخبر، فإن { قد } مع فعل الكون يراد بهما التعريض بالإِنكار على المخاطب ولومه في الإِعراض عن العمل بما تضمنه الخبر كقول عُمر لابن عباس يوم طَعَنه غلامُ المغيرة «قد كنتَ أنتَ وأبوك تُحبان أن يكثر هؤلاء الأعلاجُ بالمدينة»، ومنه قوله تعالىلقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك } ق 22 توبيخاً على ما كان منهم في الدنيا من إنكار للبعث، وقوله تعالىوقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون } القلم 43 وقولهلقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر } الأحزاب 21. ويتعلق { لكم } بفعل «كان»، أو هو ظرف مستَقِرّ وقع موقع الحال من { أسوة حسنة }. وإبراهيم عليه السلام مَثَل في اليقين بالله والغضب به، عَرف ذلك العرب واليهود والنصارى من الأمم، وشاع بين الأمم المجاورة من الكنعانيين والأَراميين، ولعله بلغ إلى الهند. وقد قيل إن اسم بَرهما معبودِ البراهة من الهنود مُحرف عن اسم إبراهيم وهو احتمال. وعُطف { والذين معه } ليتم التمثيل لحال المسلمين مع رسولهم صلى الله عليه وسلم بحال إبراهيم عليه السلام والذين معه، أي أن يكون المسلمون تابعين لرضى رسولهم صلى الله عليه وسلم كما كان الذين مع إبراهيم عليه السلام. والمراد بـ { الذين معه } الذين آمنوا به واتبعوا هديه وهم زوجه سَارَةُ وابن أخيه لوطٌ ولم يكن لإِبراهيم أبناء، فضمير { إذ قالوا } عائد إلى إبراهيم والذين معه فهم ثلاثة. و { إذْ } ظرف زمان بمعنى حينَ، أي الأسوة فيه وفيهم في ذلك الزمن. والمراد بالزمن الأحوال الكائنة فيه، وهو ما تبينه الجملة المضاف إليها الظرف وهي جملة { قالوا لقومهم إنا برءآؤا منكم } الخ. والإِسوة بكسر الهمزة وضمها القُدوة التي يقتدَى بها في فعل ما. فوصفت في الآية بـ { حسنة } وصفاً للمدح لأن كونها حسنة قد علم من سياق ما قبله وما بعده. وقرأ الجمهور { إسوة } بكسر الهمزة، وقرأه عاصم بضمها. وتقدمت في قوله تعالىلقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة } في سورة الأحزاب 21. وحرف { في } مستعار لقوة الملابسة إذ جعل تلبس إبراهيم والذين معه بكونهم أسوة حسنة، بمنزلة تلبس الظرف بالمظروف في شدة التمكن من الوصف.

السابقالتالي
2 3