الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِٱلْبَنِينَ وَٱتَّخَذَ مِنَ ٱلْمَلاۤئِكَةِ إِنَاثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً }

تفريع على مقدر يدل على تقديره المفرع عليه. والتقدير أفضلكم الله فأعطاكم البنين وجعل لنفسه البنات. ومناسبته لما قبله أن نسبة البنات إلى الله ادعاء آلهة تنتسب إلى الله بالبنوة، إذ عبد فريق من العرب الملائكَة كما عبدوا الأصنام، واعتلوا لعبادتهم بأن الملائكة بنات الله تعالى كما حكى عنهم في قولهوجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمٰن إناثا } الزخرف 19 إلى قولهوقالوا لو شاء الرحمٰن ما عبدناهم } الزخرف 20. فلما نهوا عن أن يجعلوا مع الله إلهاً آخر خصص بالتحذير عبادة الملائكة لئلا يتوهموا أن عبادة الملائكة ليست كعبادة الأصنام لأن الملائكة بنات الله ليتوهموا أن الله يرضى بأن يعبدوا أبناءه. وقد جاء إبطال عبادة الملائكة بإبطال أصلها في معتقدهم، وهو أنهم بنات الله، فإذا تَبَيّنَ بطلان ذلك علموا أن جعلهم الملائكة آلهة يساوي جعلهم الأصنام آلهة. فجملة { أفأصفاكم ربكم بالبنين } إلى آخرها متفرعة على جملةولا تجعل مع اللَّه إلٰهاً آخر } الإسراء 39 تفريعاً على النهي كما بيناه باعتبار أن المنهي عنه مشتمل عمومه على هذا النوع الخاص الجدير بتخصيصه بالإنكار وهو شبيه ببدل البعض. فالفاء للتفريع وحقها أن تقع في أول جملتها ولكن أخرها أن للاستفهام الصدر في أسلوب الكلام العربي. وهذا هو الوجه الحسن في موقع حروف العطف مع همزة الاستفهام. وبعض الأيمة يجعل الاستفهام في مثل هذا استفهاماً على المعطوف والعاطف. والاستفهام إنكار وتهكم. والإصفاء جعل الشيء صَفْوا، أي خَالصاً، وتعدية أصفى إلى ضمير المخاطبين على طريقة الحذف والإيصال، وأصله أفأصفى لكم. وقوله { بالبنين } الباء فيه إما مزيدة لتوكيد لصوق فعل أصفى بمفعوله. وأصله أفأصفى لكم ربكم البنين، كقوله تعالىوامسحوا برءوسكم } المائدة 6 أو ضمّن أصفى معنى آثر فتكون الباء للتعدية دالة على معنى الاختصاص بمجرورها، فصار أصفى مع متعلقه بمنزلة فعلين، أي قصر البنين عليكم دونه، أي جعل لم البنين خالصة لا يساويكم هو بأمثالهم، وجعل لنفسه الإناث التي تكرهونها. وفساد ذلك ظاهر بأدنى نظر فإذا تبين فساده على هذا الوضع فقد تبين انتفاء وقوعه إذ هو غير لائق بجلال الله تعالى. وقد تقدم هذا عند قوله تعالىويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون } في سورة النحل 57. وقولهإن يدعون من دونه إلا إناثاً } في النساء 117. وجملة { إنكم لتقولون قولاً عظيماً } تقرير لمعنى الإنكار وبيان له، أي تقولون اتخذ الله الملائكة بنات. وأكد فعل «تقولون» بمصدره تأكيداً لمعنى الإنكار. وجَعْله مجرد قول لأنه لا يعدو أن يكون كلاماً صدر عن غير روية، لأنه لو تأمله قائله أدنى تأمل لوجده غير داخل تحت قضايا المقبول عقلاً. والعظيم القوي. والمراد هنا أنه عظيم في الفساد والبطلاننِ بقرينة سياق الإنكار.

السابقالتالي
2