الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ ٱلظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ ٱلأَبْصَارُ }

وبعد أن ذكر الحق سبحانه وأوضح النِّعم العامة على الكون، والنعم الخاصة التي أنعم بها سبحانه على مَنْ توطَّنوا مكة، ومن نسلهم مَنْ وقف ضد رسول الله صلى الله عليه وسلم موقف العَنَت، بعد ذلك جاء الحق سبحانه بهذه الآية تعزيةً وتسرية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: { وَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ ٱلظَّالِمُونَ.. } [إبراهيم: 42]. وأرضية التصوير التي سبقتْها تشتمل بدايةَ التكوين لهذا المكان الذي وُجدوا به، وكيفية مَجِيء النعم إلى مَنْ توطنوا هذا المكان حيث تجيء إليهم الثمرات، ونعمة المَهَابة لهم حيث يعصف سبحانه بمَنْ يُعاديهم كأبرهة ومَنْ معه.فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ } [الفيل: 5]. حيث يقول سبحانه من بعد هذه الآية مباشرة:لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ* إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ ٱلشِّتَآءِ وَٱلصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هَـٰذَا ٱلْبَيْتِ * ٱلَّذِيۤ أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ } [قريش: 1-4]. ورغم ذلك وقفوا من دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم موقف الإنكار والتعنُّت والتصدِّي والجُحُود، وحاولوا الاستعانة بكل خُصوم الإسلام ليحاربوا هذا الدين ولذلك يوضح الحق سبحانه هنا تسريةً عن الرسول الكريم. { وَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ ٱلظَّالِمُونَ.. } [إبراهيم: 42]. لماذا؟ وتأتي الإجابة في النصف الثاني من الآية: { إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ ٱلأَبْصَارُ } [إبراهيم: 42]. وقوله الحق: { وَلاَ تَحْسَبَنَّ.. } [إبراهيم: 42]. أي: لا تظننّ فَحَسِب هنا ليست من الحساب والعدّ، ولكنها من " حسب " " يحسب " وقوله الحق الذي يوضح هذه المسألة:أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتْرَكُوۤاْ أَن يَقُولُوۤاْ آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ } [العنكبوت: 2]. أي: أَظَنَّ الناس. فحسِب يحسَب ليستْ - إذن - من العَدِّ ولكن من الظنِّ. والحُسْبان نسبة كلامية غير مَجْزوم بها ولكنها راجحة. والغفلة التي ينفيها سبحانه عنه هي السَّهْو عن أمر لعدم اليقظة أو الانتباه، وطبعاً وبداهةً فهذا أَمْرٌ لا يكون منه سبحانه، فهو القيُّوم الذي لا تأخذه سِنَة ولا نوم. وهنا يخاطب الحق سبحانه رسوله والمؤمنين معه تبعاً فحين يخاطب الحق سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم فهو يخاطب في نفس الوقت كلَّ مَنْ آمن به. ولكن، أكانَ الرسول يظنُّ الله غافلاً؟ لا، ولنلحظْ أن الله حين يُوجِّه بشيء فقد يحمل التوجيه أمراً يُنفّذه الإنسانُ فعلاً ويطلب الله منه الاستدامة على هذا الفعل. والمَثلُ: حين تقول لواحد لا يشرب الخمر " لا تشرب الخمر " وهو لا يشرب الخمر فأنت تطالبه بقولك هذا أنْ يستمرَّ في عدم شُرْب الخمر، أي: استمِرّ على ما أنت عليه، فعلاً في الأَمْر، أو امتناعاً في النهي. وهل يمكن أن تأتي الغفلة لله؟ وأقول: حين ترى صفةً توجد في البشر ولا توجد في الحق سبحانه فعليك أنْ تُفسِّر الأمر بالكمالات التي لله.

السابقالتالي
2 3 4