الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَىٰ } * { وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا } * { وَأَنَّهُ خَلَقَ ٱلزَّوْجَيْنِ ٱلذَّكَرَ وَٱلأُنثَىٰ } * { مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَىٰ }

قوله تعالى: { وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَىٰ } ذهبت الوسائط وبقيت الحقائق لله سبحانه وتعالى فلا فاعل إلا هو وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: لا والله ما قال رسول الله قطٌّ إنّ الميِّت يعذَّب ببكاء أحدٍ، ولكنه قال: " إنّ الكافرَ يزيدهُ الله ببكاء أهله عذاباً وإنّ الله لهو أضحك وأبْكَى وما تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى " وعنها قالت: " مَرَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم على قوم من أصحابه وهم يضحكون، فقال: «لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً» فنزل عليه جبريل فقال: يا محمد! إن الله يقول لك: { وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَىٰ }. فرجع إليهم فقال: «ما خطوت أربعين خطوة حتى أتاني جبريل فقال ٱيِت هؤلاء فقل لهم إن الله تعالى يقول: { هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَىٰ } " أي قضى أسباب الضحك والبكاء. وقال عطاء بن أبي مسلم: يعني أفرح وأحزن لأن الفرح يجلب الضحك والحزن يجلب البكاء. وقيل لعمر: هل كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحكون؟ قال: نعم! والإيمان والله أثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي. وقد تقدّم هذا المعنى في «النمل» و «براءة». قال الحسن: أضحك الله أهل الجنة في الجنة، وأبكى أهل النار في النار. وقيل: أضحك من شاء في الدنيا بأن سَرَّه وأبكى من شاء بأن غَمَّه. الضحاك: أضحك الأرض بالنبات وأبكى السماء بالمطر. وقيل: أضحك الأشجار بالنَّوَّار، وأبكى السحاب بالأمطار. وقال ذو النون: أضحك قلوب المؤمنين والعارفين بشمس معرفته، وأبكى قلوب الكافرين والعاصين بظلمة نكرته ومعصيته. وقال سهل بن عبد الله: أضحك الله المطيعين بالرحمة وأبكى العاصين بالسخط. وقال محمد بن علي الترمذي: أضحك المؤمن في الآخرة وأبكاه في الدنيا. وقال بسام بن عبد الله: أضحك الله أسنانهم وأبكى قلوبهم. وأنشد:
السِّنُّ تَضحَكُ والأحشاءُ تَحْتَرِقُ   وإنما ضِحْكُها زُورٌ ومُخْتَلَقُ
يا رُبَّ باكٍ بِعَيْنٍ لا دموعَ لها   ورُبَّ ضاحِكِ سنٍّ ما بِهِ رَمَقُ
وقيل: إن الله تعالى خصّ الإنسان بالضحك والبكاء من بين سائر الحيوان، وليس في سائر الحيوان من يضحك ويبكي غير الإنسان. وقد قيل: إن القرد وحده يضحك ولا يبكي، وإن الإبل وحدها تبكي ولا تضحك. وقال يوسف بن الحسين: سئل طاهر المقدسي أتضحك الملائكة؟ فقال: ما ضحكوا ولا كلّ من دون العرش منذ خلقت جهنم. { وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا } أي قضى أسباب الموت والحياة. وقيل: خلق الموت والحياة كما قال:ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلْمَوْتَ وَٱلْحَيَاةَ } [الملك:2] قاله ٱبن بحر. وقيل: أمات الكافر بالكفر وأحيا المؤمن بالإيمان قال الله تعالى:أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ } [الأنعام:122] الآية. وقال:إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ ٱلَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَٱلْمَوْتَىٰ يَبْعَثُهُمُ ٱللَّهُ } [الأنعام: 36] على ما تقدّم، وإليه يرجع قول عطاء: أمات بعدله وأحيا بفضله.

السابقالتالي
2