الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ أَفَأَمِنَ ٱلَّذِينَ مَكَرُواْ ٱلسَّيِّئَاتِ أَن يَخْسِفَ ٱللَّهُ بِهِمُ ٱلأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ ٱلْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ }

قوله تعالى: { أَفَأَمِنَ.. } [النحل: 45]. عبارة عن همزة الاستفهام التي تستفهم عن مضمون الجملة بعدها.. أما الفاء بعدها فهي حَرْف عَطْف يعطف جملة على جملة.. إذنْ: هنا جملة قبل الفاء تقديرها: أجهلوا ما وقع لمخالفي الأنبياء السابقين من العذاب، فأمِنُوا مكر الله؟ أي: أن أَمْنهم لمكر الله ناشىءٌ عن جهلهم بما وقع للمكَذِّبين من الأمم السابقة. ثم يقول تعالى: { مَكَرُواْ ٱلسَّيِّئَاتِ.. } [النحل: 45]. المكر: هو التبييت الخفيّ للنيْل ممَّنْ لا تستطيع مجابهته بالحق ومجاهرته به، فأنت لا تُبيِّت لأحد إلا إذا كانت قدرتُك عاجزة عن مُصَارحته مباشرة، فكوْنُك تُبيّت له وتمكر به دليل على عَجْزك ولذلك جعلوا المكر أول مراتب الجُبْن لأن الماكر ما مكر إلا لعجزه عن المواجهة، وعلى قَدْر ما يكون المكْر عظيماً يكون الضعف كذلك. وهذا ما نلحظه من قوله تعالى في حَقِّ النساء:إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ } [يوسف: 28]. وقال في حَقِّ الشيطان:إِنَّ كَيْدَ ٱلشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً } [النساء: 76]. فالمكر دليل على الضعف، وما دام كَيْدهُن عظيماً إذن: ضَعْفُهن أيضاً عظيم، وكذلك في كيد الشيطان. وقديماً قالوا: إياك أنْ يملكَك الضعيف ذلك لأنه إذا تمكَّن منك وواتَتْه الفرصة فلن يدعَكَ تُفلت منه لأنه يعلم ضعفه، ولا يضمن أن تُتاحَ له الفرصة مرة أخرى لذلك لا يضيعها على عكس القويّ، فهو لا يحرص على الانتقام إذا أُتيحَتْ له الفرصة وربما فَوَّتها لِقُوته وقُدرته على خَصْمه، وتمكّنه منه في أيِّ وقت يريد، وفي نفس المعنى جاء قول الشاعر:
وَضَعِيفة فإذَا أَصَابتْ فُرْصةً   قتلَتْ كذلِكَ قُدرةُ الضُّعَفاءِ
إذن: قدرة الضعفاء قد تقتل، أما قدرة القويّ فليستْ كذلك. ثم لنا وقْفة أخرى مع المكْر، من حيث إن المكر قد ينصرك على مُساويك وعلى مثلك من بني الإنسان، فإذا ما تعرضْتَ لمن هو أقوى منك وأكثر منك حَيْطة، وأحكم منك مكْراً، فربما لا يُجدِي مكرُك به، بل ربما غلبك هو بمكْره واحتياطه، فكيف الحال إذا كَان الماكر بك هو ربِّ العالمين تبارك وتعالى؟ وصدق الله العظيم حيث قال:وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ ٱللَّهُ وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلْمَاكِرِينَ } [ الأنفال: 30]. وقال:وَلاَ يَحِيقُ ٱلْمَكْرُ ٱلسَّيِّىءُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ.. } [فاطر: 43]. فمكْر العباد مكشوف عند الله، أما مكْرُه سبحانه فلا يقدر عليه أحد، ولا يحتاط منه أحد لذلك كان الحق سبحانه خَيْر الماكرين. والمكْر السَّيء هو المكْر البطَّال الذي لا يكون إلا في الشر، كما حدث من مَكْر المكذِّبين للرسل على مَرِّ العصور، وهو أن تكيد للغير كيْداً يُبطل حَقّاً. وكل رسول قابله قومه المنكرون له بالمكر والخديعة، دليل على أنهم لا يستطيعون مواجهته مباشرة، وقد تعرَّض الرسول صلى الله عليه وسلم لمراحل متعددة من الكَيْد والمكْر والخديعة، وذلك لحكمة أرادها الحق تبارك وتعالى وهي أن يُوئس الكفار من الانتصار عليه صلى الله عليه وسلم، فقد بيَّتوا له ودَبَّروا لقتله، وحَاكُوا في سبيل ذلك الخطط، وقد باءتْ خُطتهم ليلة الهجرة بالفشل.

السابقالتالي
2