الرئيسية - التفاسير


* تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ) مصنف و مدقق


{ ٱلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَـٰقُواْ رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَٰجِعُونَ }

" الذين " يحتمل موضعه الحَرَكات الثلاث، فالجر على أنه تابع لما قبله نعتاً، وهو الظَّاهر، والرفع والنَّصْب على القطع، وقد تقدم معناه.

وأصل الظَّن رجحان أحد الطرفين وأما هذه الآية ففيها أوجه:

أحدهما: وعليه الأكثر ـ أن الظَّن ـ هاهنا ـ بمعنى اليقين؛ ومثلهأَنِّي مُلاَقٍ حِسَابِيَهْ } [الحاقة:20]؛ وقال تعالى:أَلا يَظُنُّ أُوْلَـٰئِكَ أَنَّهُمْ مَّبْعُوثُونَ } [المطففين:4].

وقال دُرَيْدُ بنُ الصِّمَّة: [الطويل]
458ـ فَقُلْتُ لَهُمْ: ظُنُّوا بأَلْفَي مُدَجَّجٍ    سَرَاتُهُمْ في الفَارِسِيِّ المُسَرَّدِ
وقال أبو دُؤَاد: [الخفيف]
459ـ رُبَّ هَمٍّ فَرَّجْتُهُ بِعزيمٍ    وغُيُوبٍ كَشَّفْتُهَا بِظُنُونِ
فاسْتُعْمِلَ الظَّن استعمال اليَقين [مجازاً، كما استعمل العِلْم استعمال الظّن؛ كقوله:فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ } [الممتحنة:10] ولكن العرب لا تستعمل الظَّن استعمال اليقين] إلاّ فيما لم يخرج إلى الحسّ والمشاهدة كالآيتين والبَيْت، ولا تجدهم يقولون في رجل حاضر: أظنّ هذا إنساناً.

قائلو هذا القول قالوا: إن الظن ـ هنا ـ بمعنى العلم، قالوا: لأنّ الظن وهو الاعتقاد الذي يقارنه تجويز النقيض يقتضي أن يكون صاحبه غير جازم بيوم القيامة، وذلك كفر والله ـ تعالى ـ مدح على [الظّن]، والمدح على الكُفْرِ غير جائز، فوجب أن يكون المراد من الظن ـ هاهنا ـ العلم، وسبب هذا المجاز أن العلم والظن يشتركان في كون كل واحد منهما اعتقاداً راجحاً، إلا أن العلم راجحٌ مانعن من النقيض، والظن راجحُ غير مانع من النقيض، فلما اشتبها من هذا الوجه صَحّ إطلاق اسم أحدهما على الآخر، كما في الآية والبَيْت.

والثاني: أن الظّن على بابه وفيه تأويلان:

أحدهما: أن تجعل مُلاَقَاة الرب مجازاً عن الموت؛ لأن مُلاَقاة الرب سبب عن الموت، فأطلق المسبّب، وأراد السبب، وهو مجاز مشهور فإنه يقال لمن مات: إنه لقي رَبَّهُ، فتقدير الآية: وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين الذين يظنون أنهم ملاقو المَوْت في كل لَحْظَةٍ، فإن من كان متوقعاً للموت في كل لحظة، فإنه لا يفارق قلبه الخشوع.

وثانيها: أنهم يظنون مُلاَقاة ثواب ربهم؛ لأنهم ليسوا قاطعين بالثواب، دون العِقَاب، والتقدير: يظنون أنهم ملاقو ثَوَاب ربهم، ولكن يشكل على هذا عطف { وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ } فإنه إذا أعدناه على الثَّوَاب المقدر، فيزول الإشْكَال أو يقال: إنه بالنسبة إلى الأوّل بمعنى الظَّن على بابه، وبالنِّسْبَة إلى الثَّاني بمعنى اليقين، ويكون قد جمع في الكلمة الوَاحِدَةِ بين الحقيقة والمجاز، وهي مسألة خلاف.

وثالثها: قال المَهْدَوِيّ والمَاوَرْدِيّ وغيرهما: أن يضمر في الكلام " بذنوبهم " ، فكأنهم يتوقعون لقاءه مذنبين؛ لأن الإنسان الخاشع قد ينسى ظنه بيقينه وبأعماله.

قال " ابن عطية ": " وهذا تعسُّف ".

فصل في أوجه ورود لفظ الظن

قال " أبو العباس المقرىء ": وقد ورد " الظَّن " في القرآن بإزاء خمسة معان:

الأول: بمعنى " اليقين " كهذه الآية، ومثله:

السابقالتالي
2 3