الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ مِّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ ٱلْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَٱسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَٰعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي ٱلدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَٱسْمَعْ وَٱنْظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِن لَّعَنَهُمُ ٱللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً }

قوله تعالى: { مِّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ }: فيه سبعةُ أوجهٍ أحدها: أَنْ يكونَ " مِن الذين " خبراً مقدماً، و " يُحَرِّفون " جملةٌ في محلِّ رفعٍ صفةً لموصوف محذوف هو مبتدأ، تقديره: " من الذين هادوا قومٌ يُحَرِّفون " وحَذَفُ الموصوفِ بعد " مِنْ " التبعيضية جائزٌ، وإنْ كانت الصفةُ فعلاً كقولهم: " منا ظَعَن ومنا أَقام " أي: فريق ظعن، وهذا هو مذهبُ سيبويه والفارسي، ومثلُه:
1590ـ وما الدهرُ إلا تارتانِ فمِنْهما     أموتُ وأُخْرى أبتغي العيشَ أكدحُ
أي: فمنهما تارةً أموت فيها.

الثاني: ـ قول الفراء ـ وهو أنَّ الجارَّ والمجرور خبرٌ مقدم أيضاً، ولكنَّ المبتدأَ المحذوفَ يقدِّرُه موصولاً تقديره: " من الذين هادوا مَنْ يحرفون " ، ويكون قد حَمَل على المعنى في " يُحَرِّفون " ، قال الفراء: " ومثله:
1591ـ فَظَلُّوا ومنهم دَمْعُه سابقٌ له     وآخرُ يَثْني دمعةً العينِ باليدِ
قال: " تقديرُه: " ومنهم مَنْ دمعُه سابقٌ له ". والبصريون لا يجيزون حَذْفَ الموصولِ لأنه جزءُ كلمة، وهذا عندهم مؤولٌ على حذف موصوف كما تقدم، وتأويلُهم أَوْلَى لعطفِ النكرة عليه وهو " آخر " ، و " أخرى " في البيتِ قبلَه، فيكونُ في ذلك دلالةٌ على المحذوفِ، والتقديرُ: فمنهم عاشقٌ سابقٌ دمعُه له وآخرُ.

الثالث: أنَّ " مِن الذين " خبرُ مبتدأ محذوف أي: هم الذين هادوا، و " يُحَرِّفون " على هذا حالٌ من ضمير " هادوا ". وعلى هذه الأوجهِ الثلاثةِ يكونُ الكلامُ قد تَمَّ عند قوله " نصيراً ".

الرابع: أن يكونَ " من الذين " حالاً من فاعل " يريدون " قاله أبو البقاء، ومَنَع أن يكونَ حالاً من الضمير في " أوتوا " ومن " الذين " أعني في قوله: { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ } قال: " لأنَّ الحال لا تكونُ لشيءٍ واحد إلا بعطفِ بعضِها على بعض ". قلت: وهذه مسألةٌ خلافٍ، من النحويين مَنْ مَنَع، ومنهم مَنْ جَوَّز وهو الصحيح.

الخامس: أنَّ " مِن الذين " بيانٌ للموصولِ في قوله: { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ } لأنهم يهودٌ ونصارى فبيَّنهم باليهودِ، قال الزمخشري، وفيه نظرٌ من حيث إنه قد فُصِل بينهما بثلاثِ جمل وهي: " والله أعلم " إلى آخره، وإذا كان الفارسي قد مَنَعَ الاعتراضَ بجملتين فما بالُك بثلاث!! قاله الشيخ، وفيه نظرٌ فإنَّ الجمَلَ هنا متعاطفةٌ، والعطفُ يُصَيِّر الشيئين شيئاً واحداً.

السادس: أنه بيانٌ لأعدائِكم، وما بينهما اعتراض أيضاً وقد عُرِف ما فيه.

السابع: أنه متعلِّقٌ بـ " نصيراً " ، وهذه المادةُ تتعدَّى بـ " من ". قال تعالى:

السابقالتالي
2 3 4