الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ ٱلْكِتَابَ بِٱلْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ ٱلْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَٱحْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ عَمَّا جَآءَكَ مِنَ ٱلْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـٰكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَىٰ الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ }

{ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ ٱلْكِتَـٰبَ } أي الفردَ الكاملَ الحقيقيَّ بأن يسمى كتاباً على الإطلاق لحيازته جميعَ الأوصافِ الكمالية لجنس الكتابِ السماويِّ وتفوقِه على بقية أفراده وهو القرآنُ الكريم، فاللام للعهد والجملةُ عطف على (أنزلنا) وما عُطِف عليه، وقوله تعالى: { بِٱلْحَقّ } متعلق بمحذوفٍ وقع حالاً مؤكّدة من الكتاب أي ملتبساً بالحق والصدق، وقيل: من فاعل أنزلنا، وقيل: من الكاف في (إليك) وقوله تعالى: { مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } حال من الكتاب أي حالَ كونِه مصدقاً لما تقدَّمَه إما من حيث إنه نازلٌ حسْبما نُعِتَ فيه، أو من حيث إنه موافقٌ له في القِصصِ والمواعيدِ والدعوة إلى الحق والعدلِ بـين الناس والنهْيِ عن المعاصي والفواحش، وأما ما يتراءى من مخالفتِه له في بعض جزئياتِ الأحكام المتغيِّرة بسبب تغيُّرِ الأعصارِ فليست بمخالفةٍ في الحقيقة بل هي موافِقةٌ لها من حيث إن كلاًّ من تلك الأحكام حقٌّ بالإضافة إلى عصره، متضمِّنٌ للحكمة التي عليها يدور أمرُ الشريعة، وليس في المتقدم دلالةٌ على أبديةِ أحكامِه المنسوخة حتى يخالفَه الناسخُ المتأخِّرُ، وإنما يدل على مشروعيتها مطلقاً من غير تعرُّض لبقائها وزوالِها، بل نقول: هو ناطقٌ بزوالها لما أن النطقَ بصحة ما ينسخها نطقٌ بنَسْخِها وزوالِها وقوله تعالى: { مّنَ ٱلْكِتَـٰبِ } بـيانٌ (لِما)، واللام للجنس، إذ المراد هو الكتابُ السماوي وهو بهذا العنوان جنسٌ برأسه، وإن كان في نفسه نوعاً مخصوصاً من مدلول لفظ الكتاب، وعن هذا قالوا: اللام للعهد، إلا أن ذلك لا ينتهي إلى خصوصية الفردية بل إلى خصوصية النوعية التي هي أخصُّ من مُطلقِ الكتاب وهو ظاهر، ومن الكتاب السماوي أيضاً حيث خُصَّ بما عدا القرآن { وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ } أي رقيباً على سائر الكتبِ المحفوظة من التغيـير لأنه يشهد بالصحة والثبات ويقرِّر أصولَ شرائعها وما يتأبد من فروعها، ويعيِّن أحكامَها المنسوخةَ ببـيان انتهاءِ مشروعيتها المستفادة من تلك الكتب وانقضاءِ وقت العمل بها، ولا ريب في أن تميـيزَ أحكامِها الباقيةِ على المشروعية أبداً عما انتهى وقتُ مشروعيتِه وخرج عنها من أحكام كونِه مهيمناً عليه، وقرىء (ومُهيمَناً عليه) على صيغة المفعول أي هُومِنَ عليه وحُوفظ من التغيـير والتبديل كقوله عز وجل:لاَّ يَأْتِيهِ ٱلْبَـٰطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ } [فصلت، الآية 42] والحافظُ إما من جهته تعالى كما في قوله:إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ٱلذّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [الحجر، الآية 9] أو الحفاظُ في الأعصار والأمصار والفاء في قوله تعالى: { فَٱحْكُمْ بَيْنَهُمْ } لترتيب ما بعدها على ما قبلها، فإن كونَ شأنِ القرآن العظيم حقاً مصدِّقاً لما قبله من الكتب المنزلة على الأمم مهيمناً عليه من مُوجباتِ الحكم المأمور به، أي إذا كان القرآن كما ذُكِر فاحكمْ بـين أهل الكتابـين عند تحاكُمِهم إليك { بِمَا أنزَلَ ٱللَّهُ } أي بما أنزله إليك، فإنه مشتملٌ على جميع الأحكام الشرعية الباقيةِ في الكتب الإلٰهية، وتقديمُ (بـينهم) للاعتناء ببـيانِ تعميمِ الحكم لهم، ووضعُ الموصول موضعَ الضمير للتنبـيه على عِلِّيَّةِ ما في حيز الصلة للحكم، والالتفات بإظهار الاسم الجليل لتربـية المهابة والإشعار بعِلَّة الحكم.

السابقالتالي
2 3