الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ }

استئناف وقع تذييلاً لما قبله من الوعيد والإِنذار والاعتبار بما حلّ بالمكذبين، وهو أيضاً توطئة لقولهوما أمرنا إلا واحدة } القمر 50 إلخ. والمعنى إنا خلقنا وفعلنا كلّ ما ذكر من الأفعال وأسبابها وآلالتها وسلّطنَاه على مستحقيه لأنا خلقنا كل شيء بقدر، أي فإذا علمتم هذا فانتبهوا إلى أن ما أنتم عليه من التكذيب والإِصرار مماثل لما كانت عليه الأمم السالفة. واقترانُ الخبر بحرف إنّ يقال فيه ما قلناه في قولهإن المجرمين في ضلال وسُعر } القمر 47. والخَلْق أصله إيجاد ذات بشكل مقصود فهو حقيقة في إيجاد الذوات، ويطلق مجازاً على إيجاد المعاني التي تشبه الذوات في التميز والوضوح كقوله تعالىوتخلقون إفكاً } العنكبوت 17. فإطلاقه في قوله { إنا كلّ شيء خلقناه بقدر } من استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه. و { شيء } معناه موجود من الجواهر والأعراض، أي خلقنا كل الموجودات جواهرها وأعراضها بقدَر. والقدَر بتحريك الدال مرادف القدْر بسكونها وهو تحديد الأمور وضبطها. والمراد أن خلْق الله الأشياء مصاحب لقوانين جارية على الحكمة، وهذا المعنى قد تكرر في القرآن كقوله في سورة الرعد 8وكُلُّ شيء عنده بِمقدار } ومما يشمله عمومُ كل شيء خلقُ جهنم للعذاب. وقد أشار إلى أن الجزاء من مقتضى الحكمة قوله تعالىأفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا تُرجعون } المؤمنون 115 وقولهوما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وإن الساعة لآتية فاصفح الصَّفْح الجميل إن ربك هو الخلاق العليم } الحجر 85، 86 وقولهوما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون إن يوم الفصل ميقاتهم أجمعين } الدخان 38 ـــ 40 فترى هذه الآيات وأشباهها تُعقّب ذكر كون الخلق كله لحكمة بذكر الساعة ويوم الجزاء. فهذا وجه تعقيب آيات الإِنذار والعقاب المذكورة في هذه السورة بالتذييل بقوله { إنا كل شيء خلقناه بقدر } بعد قولهأكفاركم خيرٌ من أولٰئكم } القمر 43 وسيقولولقد أهلكنا أشياعكم } القمر 51. فالباء في { بقدر } للملابسة، والمجرور ظرف مستقر، فهو في حكم المفعول الثاني لفعل { خلقناه } لأنه مقصود بذاته، إذ ليس المقصود الإِعلام بأن كل شيء مخلوق لله، فإن ذلك لا يحتاج إلى الإِعلام به بَلْه تأكيده بل المقصود إظهار معنى العلم والحكمة في الجزاء كما في قوله تعالى في سورة الرعد 8وكل شيء عنده بمقدار } ومما يستلزمه معنى القَدر أن كل شيء مخلوقٍ هو جارٍ على وفق علم الله وإرادته لأنه خالق أصول الأشياء وجاعلُ القوى فيها لتنبعث عنها آثارها ومتولَّداتُها، فهو عالم بذلك ومريد لوقوعه. وهذا قد سمي بالقدَر في اصطلاح الشريعة كما جاء في حديث جبريل الصحيح في ذكر ما يقع به الإِيمان وتؤمن بالقدر خيره وشره. وأخرج مسلم والترمذي عن أبي هريرة جاء مشركو قريش يخاصمون رسول الله في القدَر فنزلت

السابقالتالي
2 3