الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ فَٱصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ ٱلْحُوتِ إِذْ نَادَىٰ وَهُوَ مَكْظُومٌ } * { لَّوْلاَ أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ لَنُبِذَ بِٱلْعَرَآءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ } * { فَٱجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ ٱلصَّالِحِينَ }

تفريع على ما تقدم من إبطال مزاعم المشركين ومطاعنهم في القرآن والرسول صلى الله عليه وسلم وما تبعه من تكفل الله لرسوله صلى الله عليه وسلم بعاقبة النصر، وذلك أن شدته على نفس النبي صلى الله عليه وسلم من شأنها أن تُدخل عليه يَأْساً من حصول رغبته ونجاح سعيه، ففرع عليه تثبيتهُ وحثه على المصابرة واستمراره على الهَدْي، وتعريفه بأن ذلك التثبيت يرفع درجته في مقام الرسالة ليكون من أولي العزم، فذكَّره بمثَل يونس عليه السلام إذْ استعجل عن أمر ربّه، فأدبه الله ثم اجتباه وتاب عليه وجعله من الصالحين تذكيراً مراداً به التحذير. والمراد بحكم الربّ هنا أمره وهو ما حُمله إياه من الإِرسال والاضطلاع بأعباء الدعوة. وهذا الحكم هو المستقرأ من آيات الأمر بالدعوة التي أولهايا أيها المدثر قم فأنذر } إلى قولهولربّك فاصبر } المدثر 1ــ 7 فهذا هو الصبر المأمور به في هذه الآية أيضاً. ولا جرم أن الصبر لذلك يستدعي انتظار الوعد بالنصر وعدم الضجر من تأخره إلى أمده المقدر في علم الله. وصاحب الحوت هو يونس بن متَّى، وقد تقدم ذكره عند قوله تعالىووهبنا له إسحاق } إلي قولهويونس } في سورة الأنعام 84 - 86. والصاحب الذي يصحب غيره، أي يكون معه في بعض الأحوال أو في معظمها، وإطلاقه على يونس لأن الحوت التقمه ثم قذفه فصار " صاحبُ الحوت " لقباً له لأن تلك الحالة معيَّة قوية. وقد كانت مؤاخذةُ يونس عليه السلام على ضجره من تكذيب قومه وهم أهل نِينَوى كما تقدم في سورة الصافات. و { إذْ } طرف زمان وهو وجملته متعلق باستقرار منصوب على الحال أي في حالة وقت ندائه ربّه، فإنه ما نادى ربّه إلاّ لإِنقاذه من كربه الذي وقع فيه بسبب مغاضبته وضجره من قومه، أي لا يكن منك ما يلجئك إلى مثل ندائه. والمكظوم المحبوس المسدود عليه يقال كظم الباب أغلقَه وكظَم النهر إذا سده، والمعنى نادى في حال حبسه في بطن الحوت. وجيء بهذه الحال جملة اسمية لدلالتها على الثبات، أي هو في حبس لا يرجى لمثله سراح، وهذا تمهيد للامتنان عليه بالنجاة من مثل ذلك الحبس. وقوله { لولا أن تداركه نعمة من ربّه لَنُبذ بالعراء } إلخ استئناف بياني ناشىء عن مضمون النهي من قوله { ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى } إلخ لأنه يتضمن التحذير من الوقوع في كرب من قبيل كرب يونس ثم لا يدري كيف يكون انفراجه. و { أنْ } يجوز أن تكون مخففة من أنَّ، واسمها ضمير شأن محذوف، وجملة { تداركه نعمة من ربّه } خبرها. ويجوز أن تكون مصدرية، أي لولا تدارك رحمة من ربّه.

السابقالتالي
2