الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ ٱدْعُوهُمْ لآبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ ٱللَّهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوۤاْ آبَاءَهُمْ فَإِخوَانُكُمْ فِي ٱلدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَـٰكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً }

فيه ست مسائل: الأولى: قوله تعالى: { ٱدْعُوهُمْ لآبَآئِهِمْ } نزلت في زيد بن حارثة، على ما تقدّم بيانه. وفي قول ابن عمر: ما كنا ندعو زيد بن حارثة إلا زيد بن محمد، دليل على أن التَّبَنِّي كان معمولاً به في الجاهلية والإسلام، يُتوارث به ويتناصر، إلى أن نسخ الله ذلك بقوله: { ٱدْعُوهُمْ لآبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ ٱللَّهِ } أي أعدل. فرفع الله حكم التَّبَنِّي ومنع من إطلاق لفظه، وأرشد بقوله إلى أن الأوْلى والأعدل أن يُنسب الرجل إلى أبيه نَسَباً فيقال: كان الرجل في الجاهلية إذا أعجبه من الرجل جلَده وظَرْفه ضمه إلى نفسه، وجعل له نصيب الذكر من أولاده من ميراثه، وكان يُنْسب إليه فيقال فلان ابن فلان. وقال النحاس: هذه الآية ناسخة لما كانوا عليه من التبنّي، وهو من نسخ السنّة بالقرآن فأمر أن يدعوا من دعوا إلى أبيه المعروف، فإن لم يكن له أب معروف نسبوه إلا وَلائه، فإن لم يكن له وَلاء معروف قال له يا أخي يعني في الدين، قال الله تعالى:إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ } [الحجرات: 10]. الثانية: لو نسبه إنسان إلى أبيه من التبنّي فإن كان على جهة الخطأ، وهو أن يسبق لسانه إلى ذلك من غير قصد فلا إثم ولا مؤاخذة لقوله تعالى: { وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَـٰكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ }. وكذلك لو دعوت رجلاً إلى غير أبيه وأنت ترى أنه أبوه فليس عليك بأس قاله قتادة. ولا يجري هذا المجرى ما غلب عليه اسم التبنّي كالحال في المِقْداد بن عمرو فإنه كان غلب عليه نسب التبنّي، فلا يكاد يعرف إلا بالمقداد بن الأسود فإن الأسود بن عبد يغوث كان قد تبنّاه في الجاهلية وعرف به. فلما نزلت الآية قال المِقْداد: أنا ابن عمرو ومع ذلك فبقي الإطلاق عليه. ولم يُسمع فيمن مضى من عَصَّى مُطْلِق ذلك عليه وإن كان متعمداً. وكذلك سالم مولى أبي حذيفة، كان يدعى لأبي حذيفة. وغير هؤلاء ممن تُبُنِّي وانْتُسِب لغير أبيه وشُهِر بذلك وغَلب عليه. وذلك بخلاف الحال في زيد بن حارثة فإنه لا يجوز أن يقال فيه زيد بن محمد، فإن قاله أحد متعمّداً عصى لقوله تعالى: { وَلَـٰكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ } أي فعليكم الجناح. والله أعلم. ولذلك قال بعده: { وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً } أي «غَفُوراً» للعمد، و«رَحِيماً» برفع إثم الخطأ. الثالثة: وقد قيل: إن قول الله تبارك وتعالى: { وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ } مُجْمَل أي وليس عليكم جناح في شيء أخطأتم، وكانت فُتْيَا عطاء وكثيرٍ من العلماء. على هذا إذا حلف رجل ألاّ يفارق غريمه حتى يستوفي منه حقه، فأخذ منه ما يرى أنه جيّد من دنانير فوجدها زيوفاً أنه لا شيء عليه.

السابقالتالي
2