والسبب في نزولها: ما أخرج في الصحيحين من حديث سعيد بن جبير عن ابن عباس: " أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى البطحاء فصعد الجبل فنادى: يا صباحاه، فاجتمعت إليه قريش، فقال: أرأيتكم إن حدّثتكم أن العدو مصبّحكم أو ممسّيكم أكنتم تصدقوني؟ قالوا: نعم، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد. فقال أبو لهب: ألهذا جمعتنا تباً لك، فأنزل الله تعالى: { تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ } إلى آخرها ". ومعنى: " تَبَّتْ ": خَسِرَتْ يدا أبي لهب. [والمراد: جملته، فهو كقوله:{ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ } [الحج: 10]. وأبو لهب] عم النبي صلى الله عليه وسلم، اسمه: عبد العزى، وكُنِّي بأبي لهب: لتوقد وجهه حُسْناً. وإنما كَنَّاهُ الله تعالى؛ لاشتهاره بالكنية، والتسجيل عليه بأنه لا يراد بهذا الأمر الفظيع سواه، ولما في تسميته بعبد العزى من الشرك. وقرأ ابن كثير: " لَهْبٍ " بإسكان الهاء، وهما لغتان، كالنَّهَر والنَّهْر، والشَّمْع والشَّمَع. وإنما يسوغ هذا فيما كان على هذا الوزن، وحرف الحلق عين الفعل [أو لامه]. قوله تعالى: { وَتَبَّ } إخبار أن التَّباب قد حصل له ووقع به. فالأول دعاء عليه، والثاني خبر. ويؤيده قراءة ابن مسعود: " وقد تبّ ". { مَآ أَغْنَىٰ عَنْهُ مَالُهُ } استفهام في معنى الإنكار عليه. ويجوز أن يكون نفياً. " وما " في قوله: { وَمَا كَسَبَ } موصولة أو مصدرية، ومحلها الرفع. على معنى: ما أغنى عنه ماله والذي كسبه، أو كسبه. والمراد بكسبه: ولده. وكان قال حين أنذرهم النبي صلى الله عليه وسلم: إن كان ما يقول محمد حقاً فإني أفتدي بمالي وولدي. ويجوز أن يراد: ما أغنى عنه رأس ماله ولا أرباحه التي اكتسبها، أو ما أغنى عنه ماله الذي ورثه وما كسبه هو. ثم توعده بالنار فقال: { سَيَصْلَىٰ نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ }. { وَٱمْرَأَتُهُ } أم جميل بنت حرب، أخت أبي سفيان، { حَمَّالَةَ ٱلْحَطَبِ }. قرأ عاصم: " حَمَّالَةَ " بالنصب على الذم. وقرأ الباقون: بالرفع على الصفة، أو على معنى: هي حمالة الحطب. قال مجاهد والسدي: كانت تمشي بالنميمة. والعرب تقول: فلانٌ يحطب على فلان؛ إذا كان يُغري به ويُفسد أمره. قال الشاعر يذكر امرأة:
منَ البيضِ لمْ تُصْطَدْ على ظَهْرِ سَوْأَةٍ
ولم تَمْشِ بين الحيِّ بالحَطَبِ الرَّطْب
وقال الضحاك وابن زيد: كانت تحتطب الشوك فتُلقيه في طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلاً. والقولان عن ابن عباس. وقال قتادة: كانت تُعَيّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفقر، وكانت تحتطب، فعُيّرت بذلك. قال الثعلبي: وهذا قول ليس بقوي؛ لأن الله وصفهم بالمال والولد، وحمل الحطب ليس بعيب. قلتُ: وليس هذا التضعيف بشيء؛ لأن الاحتطاب مع كثرة المال دناءة وخسّة يأباها ذووا الأَنَفَة.