الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ فَإِذَا ٱنسَلَخَ ٱلأَشْهُرُ ٱلْحُرُمُ فَٱقْتُلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَٱحْصُرُوهُمْ وَٱقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَٰوةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }

{ فَإِذَا ٱنسَلَخَ } أي: انقضى { ٱلأَشْهُرُ ٱلْحُرُمُ } أي: التي أبيح للذين عوهدوا فيها أن يسيحوا في الأرض، وحرم فيها قتالهم { فَٱقْتُلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } أي: من حِلٍّ أو حرمٍ - كذا قاله غير واحد - قال ابن كثير: هذا عامّ، والمشهور تخصيصه بغير الحرم، لتحريم القتال فيه، لقوله تعالى:وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ حَتَّىٰ يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَٱقْتُلُوهُمْ } [البقرة: 191]، { وَخُذُوهُمْ } أي: ائسروهم { وَٱحْصُرُوهُمْ } أي: احبسوهم في المكان الذي هم فيه، لئلا يتبسطوا في سائر البلاد { وَٱقْعُدُواْ لَهُمْ } أي: لقتالهم { كُلَّ مَرْصَدٍ } أي: طريق وممرّ { فَإِن تَابُواْ } أي: عن الكفر { وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَٰوةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ } أي: فاتركوا التعرض لهم { إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } أي: يغفر لهم ما سلف من الكفر والغدر.

تنبيهات

الأول: ما ذكرناه من أن المراد { ٱلأَشْهُرُ ٱلْحُرُمُ } أشهر العهد، هو الذي اختاره الأكثرون. سماها (حرماً) لتحريم قتال المشركين فيها ودمائهم، فالألف واللام للعهد، ووضع المظهر موضع المضمر ليكون ذريعة إلى وصفها بالحرمة، تأكيداً لما ينبئ عنه إباحة السياحة من حرمة التعرض لهم، مع ما فيه من مزيد الاعتناء بشأنها. وقيل: المراد (الأشهر الحرم): رجب، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، روي ذلك عن ابن عباس والضحاك والباقر، واختاره ابن جرير. وضعف بأنه لا يساعده النظم الكريم؛ لأنه يأباه ترتبه عليه (بالفاء) فهو مخالف للسياق الذي يقتضي توالي هذه الأشهر.

قال ابن القيم: { ٱلْحُرُمُ } هاهنا هي أشهر التسيير، أولها يوم الأذان، وهو اليوم العاشر من ذي الحجة، وهو يوم الحج الأكبر، الذي وقع فيه التأذين بذلك، وآخرها العاشر من ربيع الآخر. وليست هي الأربعة المذكورة في قوله:إِنَّ عِدَّةَ ٱلشُّهُورِ عِندَ ٱللَّهِ ٱثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ ٱللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ } [التوبة: 36] فإن تلك واحد فرد هو رجب، وثلاثة سرد وهي ذو العقدة وتالياه. ولم يسيّر المشركين في هذه الأربعة، فإن هذا لا يمكن؛ لأنها غير متوالية، وهو إنما أجلهم أربعة أشهر، ثم أمره بعد انسلاخها أن يقاتلهم. انتهى.

وقالوا: يلزم على هذا بقاء حرمة تلك الأشهر، وتكلف الجواب بنسخها، إما بانعقاد الإجماع عليه، أو بما صح من أنه صلى الله عليه وسلم حاصر الطائف لعشر بقين من المحرم، مع أن هذا الإجماع كلاماً، وقد خالف بعضهم في بقاء حرمتها، إلا أنهم لم يعتدّوا به كما قاله في (العناية). وفيها: إن لك أن تقول: منع القتال في الأشهر الحرم في تلك السنة، لا يقتضي منعه في كل ما شابهها، بل هو مسكوت عنه، فلا يخالف الإجماع، ويكون حلّه معلوماً من دليل آخر.

وأقول: يظهر لي ترجيح هذا الثاني وأن المراد بالأربعة الأشهر هي المعروفة، وأن قوله تعالى: { فَإِذَا ٱنسَلَخَ ٱلأَشْهُرُ ٱلْحُرُمُ } هي هذه الأربعة، لأنها حيثما أطلقت في التنزيل لا تنصرف إلا إليها، فصرفها إلى غيرها يحتاج إلى برهان قاطع.

السابقالتالي
2 3