الرئيسية - التفاسير


* تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة (ت 1224 هـ) مصنف و مدقق


{ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }

قلت: { إياك } مفعول { نعبد } ، وقُدِّم للتعظيم والاهتمام به، والدلالِ على الحصر، ولذلك قال ابن عباس: نعبُدك ولا نعبد معك غيرَك، ولتقديم ما هو مقدَّمٌ في الوجود وهو الملك المعبود، وللتنبيه على أن العابدَ ينبغي أن يكون نظرُه إلى المعبود أولاً وبالذات، ومنه إلى العبادة، لا من حيث إنها عبادةٌ صدَرتْ عنه، بل من حيث إنها نِسْبَةٌ شريفة إليه، وَوُصْلَةٌ بينه وبين الحق، فإن العارف إنما يَحِقُّ وصوله إذا استغفر في ملاحظة جناب القدس، وغاب عما عداه، حتى إنه لا يلاحظ نفسَه ولا حالاً من أحوالها إلا من حيث إنها تَجَلٍّ من تجلياته ومظهرٌ لربوبيته، ولذلك فُضِّلَ ما حكى اللَّهُ عن حبيبه حين قال:لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا } [التّوبَة: 40]، على ما حكاه عن كليمه حيث قال:إِنَّ مَعِىَ رَبِّى سَيَهْدِينِ } [الشُّعَرَاء: 62]، أي: حيث صرّح بمطلوبه، و { إياك } مفعول { نستعين } وقدّم أيضاً للاختصاص والاهتمام، كما تقدم في { إياك نعبد }. وكرّر الضمير ولم يقل: إياك نعبد ونستعين لأن إظهارَه أبلغ في إظهار الاعتماد على الله، وأقطعُ في إحضار التعلق بالله والإقبال على الله وأمدحُ، ألا ترى أن قولك: بك أنتصر وبك أحتمي وبك أنال مطالبي - أبلغ وأمدح من قولك: بك أنتصر وأحتمي... الخ؟ وَقَدَّمَ العبادة على الاستعانة ليتوافقَ رؤوسُ الآي، وليُعلمَ منه أن تقديم الوسيلة على طلب الحاجة أَدْعَى إلى الإجابة، فإن مَنْ تَلبَّس بخدمة الملك وشرع فيها بحسب وُسْعَه، ثم طلب منه الإعانة عليها أجيب إلى مطلبه، بخلاف من كلّفه الملكُ بخدمته، فقال: أعطني ما يعينُني عليها، فهو سوء أدب، وأيضاً: من استحضر الأوصافَ العِظام ما أمكنه إلا المسارعةُ إلى الخضوع والعبادة، وأيضاً: لمّا نسبَ المتكلمُ العبادةَ إلى نفسه أوْهَمَ ذلك تبجحاً واعتداداً منه بما يصدُر عنه فعقَّبه بقوله: { وإياك نستعين } ، دفعاً لذلك التوهم. والعبادة: أقصى غاية الخضوع والتذلل، ومنه طريق مُعَبَّدٌ، أي: مُذَلل، والاستعانة، طلب المعونة، والمراد طلب المعونة في المُهمات كُلِّها، أو في أداء العبادات. والضمير المستتر في الفعلين للقارئ ومن معه من الحفظة وحاضري صلاة الجماعة، أو له ولسائر الموجودين. أدْرَجَ عبادته في تضاعيف عبادتهم وخلط حاجته بحاجتهم لعلها تُقبل ببركتها ويُجاب إليها، ولهذا شرعت الجماعة. قاله البيضاوي. يقول الحقّ جلّ جلاله، تتميماً لتعليم عباده: فإذا أثنيتمُ عليَّ ومجدتموني وعظمتموني فأقِرُّوا لي بالربوبية، وأظهروا من أنفسكم العبودية، واطلبوا مني العون في كل وقت وقولوا: { إياك نعبد وإياك نستعين } ، وكأنه - جلّ جلاله - لَمّا ذكر أنه مستحق للمحامد كلها قديمها وحديثها لأنه رب العوالِم وقيومها، أصل الأصول وفروعها، أنعم عليها أولاً بالإيجاد، وثانياً بتوالي الإمداد، فهو مالكها على الإطلاق، ذكر أنه لا يستحق أن يُعبد سواه إذ لا مُنعمَ على الحقيقة إلا الله، فهو أحقُّ أن يُعبد، وأولى أن يفرد بالوجهة والقصد، لأنه مُسْتَبِدٌ وغير مُسْتَمدّ، والمادة من عَيْنِ الجود، فإذا انقطعت المادة انعدم الوجود.

السابقالتالي
2 3