الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ كَـذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَٱلأَحْزَابُ مِن بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُـلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِٱلْبَاطِلِ لِيُدْحِضُواْ بِهِ ٱلْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ }

المعنى: أنهم ليسوا بدعاً في الوجود، كما أنك لستَ بدعاً في الرسل، فقد سبقك إخوانك من الرسل فكُذّبوا كما كذَّبك قومك، لكن ماذا كانت نتيجة التكذيب؟ أبعث الله رسولاً وتركه وأسلمه؟ كلا والله بل سُنة الله في رسله أنْ ينصرهم وأنْ يخذل أعداء دعوته، قال تعالى:وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا ٱلْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ ٱلْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ ٱلْغَالِبُونَ } [الصافات: 171-173]. وهذا ليس كلاماً نظرياً نُسليك به يا محمد، إنما له واقع وله نظائر تؤيده في موكب الرسالات، كما قال سبحانه عن المكذِّبين:فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً.. } [العنكبوت: 40] أي: ريحاً ترميهم بالحجارة المحميةوَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ ٱلصَّيْحَةُ.. } [العنكبوت: 40] وهم قوم ثمودوَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ ٱلأَرْضَ.. } [العنكبوت: 40] كما خُسف بقارونوَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا.. } [العنكبوت: 40] كما فعل بقوم نوح وبقوم فرعون. فسُنة الله في الرسالات أنْ ينصر رسله وأنْ يهزم عدوه، لذلك قلنا: إذا رأيتَ الأمة الإسلامية تنهزم في معركة، فاعلم أنه اختل فيها شرط الجندية لله، ولو بقيتْ على شرط الله في الجندية ما انهزمتْ أبداً. فقوله تعالى: { كَـذَّبَتْ قَبْلَهُمْ.. } [غافر: 5] أي: قبل قومك الذين كذبوك قوم نوح وهذه تسلية لرسول الله وتخفيف عنه، فليس التكذيب للرسالات شيئاً جديداً، واختار قوم نوح بالذات لأن رسالة نوح عليه السلام كانت أطولَ رسالة، حيث لبث في دعوة قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، كل هذا العمر الطويل وهم يجادلون رسول الله نوحاً ويكذبونه ويعاندونه، لذلك يئس من صلاحهم ودعا عليهم:رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى ٱلأَرْضِ مِنَ ٱلْكَافِرِينَ دَيَّاراً * إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُوۤاْ إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً } [نوح: 26-27]. أما القلة التي آمنتْ معه فقد دعا لهم حيث بدأ بنفسه:رَّبِّ ٱغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ.. } [نوح: 28] ثموَلِوَالِدَيَّ.. } [نوح: 28] لأنهما سببُ وجوديوَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً.. } [نوح: 28] وهم ما لهم صلة به، ثم لعامة المؤمنين والمؤمناتوَلِلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ.. } [نوح: 28]. إذن: ذكر تكذيب قوم نوح بالذات لأنه العمدة في هذه المسألة وهو الأوضح والأعنف، ولا تخفى عليكم المواقف التي تعرَّض لها نوح عليه السلام من تكذيب قومه وإيذائهم له واستهزائهم به، وهو يصنع السفينة. وقوله: { وَٱلأَحْزَابُ مِن بَعْدِهِمْ.. } [غافر: 5] المراد عاد قوم هود عليه السلام وثمود قوم صالح عليه السلام، وهذا ليس كلاماً نظرياً بل هو واقع يرَوْنَهُ ويمرون بهذه الديار الخربة:وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ * وَبِٱلَّيلِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } [الصافات: 137-138]. إنهم يمرون في أسفارهم بالأحقاف وبمدائن صالح، وعندنا في مصر آثار الفراعنة كلها تشهد بصدق الله في هذا البلاغ، وها هي أكثر دول العالم تقدماً الآن وحضارة تقف عاجزة أمام حضارة الفراعنة، وكيف أنهم وصلوا إلى هذه الدرجة من التقدم منذ أكثر من سبعة آلاف عام، ومع ذلك فاتتهم هذه الحضارة لأنهم لم يصلوا إلى الحد الذي يصونها لهم.

السابقالتالي
2 3