الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَىٰ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ }

عطف على جملةقل إنما الآيات عند الله } العنكبوت 50 وهو ارتقاء في المجادلة. والاستفهام تعجيبي إنكاري. والمعنى وهل لا يكفيهم من الآيات آيات القرآن فإن كل مقدار من مقادير إعجازه آية على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم فإن آيات القرآن زهاء ستة آلاف آية. ومقدار كل ثلاث آيات مقدار مُعجز، فيحصل من القرآن مقدار ألفي معجزة وذلك لم يحصل لأحد من رسل الله. و { الكتاب } القرآن، وعُدل عن لفظ القرآن الذي هو كالعلم عليه إلى لفظ الكتاب المعهود لإيمائه إلى معنى تعظيمه بأنه المشتهر من بين كتب الأنبياء. وجملة { يتلى عليهم } مستأنفة أو حال، لأن الكتاب معلوم غير محتاج للوصف لما تشعر به مادة التلاوة من الانتشار والشيوع. واختير المضارع دون الوصف بأن يقال متلواً عليهم، لما يؤذن به المضارع من الاستمرار، فحصل من مادة { يُتْلَى } ومن صيغة المضارع دلالة على عموم الأمكنة والأزمنة. وقد أشار قوله { يُتْلى عليهم } وما بعده إلى خمس مزايا للقرآن على غيره من المعجزات. المزية الأولى ما أشار إليه قوله { يُتْلى عليهم } من انتشار إعجازه وعمومه في المجامع والآفاق والأزمان المختلفة بحيث لا يختص بإدْراك إعجازه فريق خاص في زمن خاص شأن المعجزات المشهودة مثل عصا موسى وناقة صالح وبرء الأكمة، فهو يتلى، ومن ضمن تلاوته الآيات التي تحدّت الناس بمعارضته وسجلت عليهم عجزهم عن المعارضة من قَبل محاولتهم إياها فكان كما قال فهو معجزة باقية والمعجزات الأخرى معجزات زائلة. المزية الثانية كونه مما يُتلى، فإن ذلك أرفع من كون المعجزات الأخرى أحوالاً مرئية لأن إدراك المتلوّ إدراك عقلي فكري وهو أعلى من المدركات الحسية فكانت معجزةُ القرآن أليق بما يستقبل من عصور العلم التي تهيأت إليها الإنسانية. المزية الثالثة ما أشار إليه قوله { إن في ذلك لرحمة } فإنها واردة مورد التعليل للتعجيب من عدم اكتفائهم بالكتاب وفي التعليل تتميم لما اقتضاه التعبير بالكتاب وبــــ { يتلى عليهم } ، فالإشارة بــــ { ذلك } إلى { الكتاب } ليستحضر بصفاته كلها وللتنويه به بما تقتضيه الإشارة من التعظيم. وتنكير رحمة للتعظيم، أي لا يقادَر قدرها. فالكتاب المتلو مشتمل على ما هو رحمة لهم اشتمال الظرف على المظروف لأنه يشتمل على إقامة الشريعة وهي رحمة وصلاح للناس في دنياهم، فالقرآن مع كونه معجزة دالّةً على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم ومرشدة إلى تصديقه مثل غيره من المعجزات وهو أيضاً وسيلة علم وتشريع وآداب للمتلو عليهم وبذلك فضَل غيره من المعجزات التي لا تفيد إلا تصديق الرسول الآتي بها. المزية الرابعة ما أشار إليه قوله { وذكرى } فإن القرآن مشتمل على مواعظ ونذر وتعريف بعواقب الأعمال، وإعدادٍ إلى الحياة الثانية، ونحو ذلك مما هو تذكير بما في تذكره خيرُ الدارين، وبذلك فضَل غيره من المعجزات الصامتة التي لا تفيد أزيد من كون الآتية على يديه صادقاً.

السابقالتالي
2