سبحان الله، فبعد أنْ فعلوا برسول الله وأتباعه ما فعلوا، وبعد أنْ فَزِعوا وحاق بهم العذاب يعلنون الإيمان ويقولون { آمَنَّا بِهِ } [سبأ: 52] وما أشبه هذا بإيمان فرعون لما أدركه الغرق{ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لاۤ إِلِـٰهَ إِلاَّ ٱلَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنوۤاْ إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ } [يونس: 90] فردَّ الله عليه{ آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ ٱلْمُفْسِدِينَ } [يونس: 91] يعني: هذا وقت لا ينفع فيه إيمان. وهنا يردُّ الحق عليهم إيمانهم، فيقول: { وَأَنَّىٰ لَهُمُ ٱلتَّنَاوُشُ } [سبأ: 52] أي: تناول الإيمان { مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ } [سبأ: 52] كلمة أنّى يعني: كيف لهم الإيمان الآن، وهم في موقف الموت أو البعث، فقد كان الإيمان قريباً منهم في الدنيا، أما الآن أبعد ما يكون عنهم. لذلك استخدم السياق أداة الاستفهام أنّى ولها معنيان: بمعنى كيف الدالة على التعجُّب يعني: هذا أمر غريب وعجيب منهم، وتأتي أنّى بمعنى من أين كما جاء في قول سيدنا زكريا للسيدة مريم:{ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا ٱلْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يٰمَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَـٰذَا } [آل عمران: 37]. يعني: من أين لك هذا الرزق؟ لذلك ينبغي لولي الأمر أن يتعلَّم من هذه الآية إذا رأى عند أهله شيئاً لم يأتِ لهم به أن يسألهم من أين جاءوا به، وكيف وصل إلى بيته، وهذا احتياط واجب لأن هذا الشيء قد يكون تسللاً أو استمالة إلى معصية. وترد السيدة مريم على هذا السؤال{ قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ } [آل عمران: 37] ثم تذكر حيثية ذلك{ إِنَّ ٱللًّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [آل عمران: 37] يعني: إياك أنْ تحسب المسائل بقدرتك، فتقول: من أين أتتك فاكهة الصيف في الشتاء، أو فاكهة الشتاء في الصيف؟ لأن هذا عطاء الله وقدرته. وكأن هذا القول من السيدة مريم قد نبّه سيدنا زكريا إلى قضية غفل عنها، فهزَّتْه هذه الكلمة{ إِنَّ ٱللًّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [آل عمران: 37]. عندها قال في نفسه إذن: لماذا لا أدعو الله أنْ يرزقني الولد بعد أن بلغْتُ من الكِبَر عتيّاً وامرأتي عاقر، فعطاء الله لا يخضع للأسباب{ هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ ٱلدُّعَآءِ } [آل عمران: 38]. وهكذا استفاد سيدنا زكريا من هذه القضية العقدية التي نبهته لها السيدة مريم، وفعلاً استجاب الله له وأعطاه ولداً، بل أكَّد ذلك بأنْ سَمَّاه له{ فَنَادَتْهُ ٱلْمَلاۤئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي ٱلْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَـىٰ مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِّنَ ٱلصَّالِحِينَ } [آل عمران: 39]. وهذا تسجيل للبُشْرى وتأكيد لها، ومن ذلك ما رُوي عن سيدنا أبي بكر، فقبل أنْ يموت أوصى السيدة عائشة بخصوص الميراث من بعده، فقال لها: إنما هما أُختاك وأخَواك.