الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير صدر المتألهين/ صدر المتألهين الشيرازي (ت 1059 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّ أَصْحَابَ ٱلْجَنَّةِ ٱليَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ }

قد مرّ في تفسيرنا لآية الكرسي، أن أصحاب النار بالأصالة هي النفس والشيطان، لأنهما ظلمانيتان بجوهريهما، حاصلتان من سنخ الطبيعة النارية الكدرة الدخانية من عالم الأجرام السفلية، وأن أصحاب الجنة بالأصالة هي الروح والملائكة، لأنهما نورانيتان بجوهرهما، حاصلتان من سنخ الحقيقة النورية اللطيفة من عالم الأنوار العلوية.

وأما القلب الإنساني فهو ذو وجهين: وجه إلى النفس ووجه إلى الروح، إنما ينقلب إلى أحد من هذين القبيلين بمزاولة أحوال (أعمال - ن) تناسبه، فيصير أما من أصحاب الجنة - وهم أصحاب اليمين -، وإما من أصحاب النار - وهم أصحاب الشمال -. والجنة موطن أهل السعادة ومصعدهم في جهة العلو، كما أن النار موطن أهل الشقاوة ومهبطهم في جهة السفل.

والتنكير في قوله: " في شُغُل " ، مُشْعر بأن شغلهم شغل لا يوصف بحد من جهة المشغول فيه والمشغول عنه جميعاً:

أما المشغول فيه، فما ظنك بشغل من وصل إلى دار الكرامة، ومنزل المصطفَيْن الأبرار، ومنبع الخيرات الحِسان، فاز بالنعيم الدائم، ووصل إلى الحق القائم، ووقع في ملاذّ وسعادات لا يكتنه وصفها ولا يحاط بنعمتها، مع كرامة وتعظيم وشرف مقيم.

وأما المشغول عنه، فما ظنك بشغل من تخلّص من هموم الدنيا وأحزانها، وأمراضها وآلامها، وهجوم آفاتها وأهوالها من مشاق التكليف ومضائق التقوى والخشية، ومرارة الصبر طول العمر عن اللذات والمرغوبات، وتخطي الأهوال والأخطار والموت عن مأنوساتها بالاختيار والإضطرار، ومفارقة الأحبة والإخوان، ومهاجرة الأولاد والأقران، ومقاسات المحن من الحسّاد والأعداء، ومشاهدة أوضاع الفجرة والفسّاق، وسوء عقائدهم، وقبح أعمالهم، وغدرهم ومكرهم، وترفّع حال الجهّال وتصدّر الأرذال، إلى غير ذلك من مكاره هذه النشأة الدنيوية وشدائدها، وآفاتها ونقائصها، وآلامها ومحنها، وأمراضها وأوجاعها - وبالجملة شرورها التي لا ينفك عنها إنسان، فكيف المؤمن الغريب في هذه الدار المشحونة بالآفات والأخطار، الطافحة بشرور الأشرار، ثم مرارة الموت وكربه، وزهوق الروح وتعبه، ووحشة القبر وخطره، وقيام الساعة وهولها، والمناقشة في الحساب، ومعاينة ما لقي العصاة من العذاب.

وعن ابن عباس: " في افتضاض الأبكار ". لا يبعد أن يكون المراد منه كشف الحقائق العلمية، وشهود المعارف العقلية - كشفاً وشهوداً لا يمكن البلوغ والوصول إلى نيله إلى تلك الغاية إلاّ في الدار الآخرة -.

وعنه أيضاً: " في ضرب الأوتار ". وليس ببعيد أيضاً أن يكون المراد منه سماع نغمات الأبرار، بل الاتصال بنفوس الضاربين الأوتار والأدوار، المحركين لأشواق الدائرات في عشق جمال الأبد على الفلك الدوّار، والواهبين سوانح اللذّات الدائمات على الرقّاصين في ملاحظة جمال السرمد على بساط الرحمة (بمشاغل - ن) الأنوار.

وعن ابن كيسان: " في التزاور " ، وعن بعضهم: " في ضيافة الله " ، وعن الحسن: " شغلهم عما فيه أهل النار بما هم فيه " ، وعن الكلبي: " في شغل عن أهاليهم من أهل النار، لا يهمهم أمرهم ولا يذكرونهم لئلا يدخل عليهم تنقيص في نعيمهم ".

السابقالتالي
2