الرئيسية - التفاسير


* تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة (ت 1224 هـ) مصنف و مدقق


{ أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ ٱلنَّبِيِّيْنَ مِن ذُرِّيَّةِ ءَادَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَٱجْتَبَيْنَآ إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُ ٱلرَّحْمَـٰنِ خَرُّواْ سُجَّداً وَبُكِيّاً }

قلت: { أولئك }: مبتدأ، و { الذين }: خبره، أو { الذين }: صفته، و { إذا تتلى }: خبره. والإشارة إلى المذكورين في السورة، وما فيه من معنى البُعد للإشعار بعلو رتبتهم وبُعد منزلتهم في الفضل، و { من النبيين }: بيان للموصول، و { من ذرية }: بدل منه بإعادة الجار، و { سُجدًا وبُكيًّا }: حالان من الواو، و { بكيًّا }: جمع باك، كمساجد وسجود، وأصله: بكوى، فاجتمع الواو والياء، وسُبق إحداهما بالسكون، فقلبت الواو ياء، وأدغمت في الياء، وحركت الكاف بالكسر المجانس للياء. يقول الحقّ جلّ جلاله: { أولئك } المذكورون في السورة الكريمة هم { الذين أنعم الله عليهم } بفنون النعم الدينية والدنيوية، { من النبيين من ذرية آدم } ، وهو إدريس عليه السلام ونوح، { وممن حملنا مع نوحٍ } أي: ومن ذرية من حملناهم في السفينة، وهو إبراهيم لأنه من ذرية سام بن نوح، { ومن ذرية إبراهيم } ، وهم إسماعيل وإسحاق ويعقوب، وقوله: { وإِسرائيلَ } أي: ومن ذرية إسرائيل، وهو يعقوب، وكان منهم موسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى، وفيه دليل على أن أولاد البنات من الذرية. { وممن هدينا } أي: ومن جملة من هديناهم إلى الحق واجتبيناهم إلى النبوة من غير هؤلاء. { إِذا تُتلى عليهم آياتُ الرحمن خَرُّوا سُجدًا وبُكيًّا } ، هذا استئناف لبيان خشيتهم من الله تعالى وإخباتهم له، مع ما لهم من علو الرتبة وسمو الطبقة في شرف النسب، وكمال النفس والزلفى من الله عزّ وجلّ، أي: إذا تتلى عليهم، آيات الرحمن، إما عند نزولها عليهم، أو بسماعها من غيرهم، لحديث: " أحب أن أسمعه من غيري " ثم بكى صلى الله عليه وسلم عند قوله تعالى:فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ هَـٰؤُلاۤءِ شَهِيداً } [النِّساء: 41] فكان الأنبياء عليهم السلام مثله، إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا ساجدين وباكين. عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " اتْلُوا القُرْآنَ وابْكُوا، فَإِنْ لمْ تَبْكُوا فَتَباكَوْا " وعن عمر رضي الله عنه أنه قرأ سورة مريم، فسجد فيها، فقال: هذا السجود، فأين البكاء؟ قال بعضهم: ينبغي أن يدعو الساجد في سجوده بما يليق بآيتها، فهاهنا يقول: اللهم اجعلني من عبادك المنعم عليهم، المهديين الساجدين لك، الباكين عند تلاوة آياتك. وفي الإسراء يقول: اللهم اجعلني من الخاضعين لوجهك، المسبحين بحمدك، وأعوذ بك أن أكون من المستكبرين عن أمرك، وهكذا. والذي ورد في الخبر: يقول: " سَجَدَ وَجْهِي للذي خَلَقَه وصوَّره، وشقَّ سمعَه وَبَصَرَه، بحوله وقُوته، اللهم اكتب لي بها أجرًا، وضع عني بها وزرًا، واجعلها لي عندك ذخرًا، وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود عليه السلام ". والله تعالى أعلم. الإشارة: قد أثنى الله تعالى على هؤلاء السادات المُنعَم عليهم بكونهم إذا سمعوا كلام الحبيب خضعوا ورقَّت قلوبهم، وهو أول درجة المحبة، وفوقه الفرح بكلام الحبيب من مكان قريب، وفوقه الفرح بشهود المتكلم، وهنا ينقطع البكاء لدخول صاحب هذا المقام جنة المعارف، وليس في الجنة بكاء.

السابقالتالي
2