الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُوداً وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ }

وساعة تسمع { وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا } فأنت تعرف أن هناك آمراً وأمراً مُطاعاً، وبمجرد صدور الأمر من الآمر سبحانه يكون التنفيذ لأنه يأمر مَنْ له قدرة على التنفيذ: ولذلك يقول الحق سبحانه:إِذَا ٱلسَّمَآءُ ٱنشَقَّتْ * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ } [الإنشقاق: 1-2]. إذن: فهي بمجرد السمع نَفَّذت أمر الحق سبحانه. وحين شاء الحق سبحانه أن يُنجي موسى عليه السلام من الذبح الذي أمر به فرعون أوحى الله سبحانه لأمِّ موسى قائلاً:.. فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي ٱليَمِّ وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِيۤ إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ } [القصص: 7]. وكيف تفعل أمٌّ ذلك. إن كل أمًّ إنما تحرص على ابنها والذبح لموسى أمر مظنون، والإلقاء في البحر موت محقَّق، لكن أم موسى استقبلت الوحي ولم تتردد مما يدل على أنها لم تُناقش الأمر بمقاييس البشر، بل بتنفيذ إلهامٍ واردٍ إليها من الله سبحانه إلهام لا ينازعه شَكٌّ أو شيطان. وبعد ذلك يأمر الله سبحانه البحر:فَلْيُلْقِهِ ٱلْيَمُّ بِٱلسَّاحِلِ.. } [طه: 39]. وقد استقبل البحرُ الأمرَ الإلهي لأنه أمر من قادر على الإنفاذ، كما قام بتنفيذ الضد. في قصة نوح عليه السلام قال الحق سبحانه:حَتَّىٰ إِذَا جَآءَ أَمْرُنَا وَفَارَ ٱلتَّنُّورُ.. } [هود: 40]. وحدث الطوفان ليغرق الكافرين. وهنا يقول الحق سبحانه: { وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا.. } [هود: 58]. يعني: مجيء الأمر بالعذاب للمخالفين لدعوة هود عليه السلام، وقد تحقَّق هذا العذاب بطريقة خاصة ودقيقة تتناسب في دقتها مع عظمة الآمر بها سبحانه وتعالى. فحين تأتي رِيحٌ صَرْصَرٌ أو صَيحةٌ طاغيةٌ، فهذا العذاب من خارجهم، وما دام العذاب من الخارج، وبقوة من قوى الطبيعة الصادرة بتوجيه الله فقد يَعُمُّ المكذِّبين لسيدنا هود، ومعهم المصدِّقون به وبرسالته، فكيف يتأتَّى أن تذهب الصيحة إلى آذان المكذِّبين فقط، وتخرق تلك الآذان وتترك آذان المؤمنين؟ إنها قدرة التقدير لا قوة التدمير. إن مُوجِّه الصيحة قد حدَّد لها مَنْ تُصيب ومن تترك، وهي صيحة موجَّهة، مثلها مثل حجارة سِجِّيل التي رمتها طير أبابيل على أبرهة الحبشي وجنوده مع نجاةَ جنود قريش بنفس الحجارة ولم تكن إصابة بالطاعون كما ادَّعى بعضٌ من المتفلسفين. وهذه من أسرار عظمة الحق سبحانه فهو يأخذ بشيء واحد ولكنه يُنجي المؤمن ويعذِّب الكافر فلا يوجد ناموس يحكم الكون بدون قدرة مسيطرة عليه. يقول المتنبي:
تُسَوِّدُ الشَّمْسُ مِنَّا بِيضَ أوجُهِنا   وَمَا تُسوِّدُ بِيضَ العَينِ والَّلمَمِ
وَكَانَ حَالُهُما فِي الحُكْمِ واحِدَةً   لَو احْتَكَمْنَا مِنَ الدُّنْيَا إلَى حَكَمِ
وهكذا يضرب المتنبي المثل بأن جلوس الواحد منا في الشمس يجعل بشرة الأبيض تميل إلى السمرة ولا تسود بياض الشعر، لكنك إن تركت شيئاً أسود في الشمس فترة لوجدته يميل إلى الأبيض ويحدث ذلك رغم أن الفاعل واحد لكن القابل مختلف.

السابقالتالي
2