الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بِٱلآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا ٱلأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ ٱلنَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِٱلآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً }

{ وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بِٱلآيَـٰتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا ٱلأَوَّلُونَ وَءَاتَيْنَا ثَمُودَ ٱلنَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا } هذا كشف شبهة أخرى من شبه تكذيبهم إذ كانوا يسألون النبي أن يأتيهم بآيات على حسب اقتراحهم، ويقولون لو كان صادقاً وهو يطلب منا أن نؤمن به لجاءنا بالآيات التي سألناه، غروراً بأنفسهم أن الله يتنازل لمباراتهم. والجملة معطوفة على جملةوإن من قرية إلا نحن مهلكوها } الآية الإسراء 58، أي إنما أمهلنا المتمردين على الكفر إلى أجل نزول العذاب ولم نجبهم إلى ما طلبوا من الآيات لعدم جدوى إرسال الآيات للأولين من قبيلهم في الكفر على حسب اقتراحهم فكذبوا بالآيات. وحقيقة المنع كف الفاعل عن فعل يريد فعله أو يسعى في فعله، وهذا محال عن الله تعالى إذ لا مكره للقادر المختار. فالمنع هنا مستعار للصرف عن الفعل وعدم إيقاعه دون محاولة إتيَانِه. والإرسال يجوز أن يكون حقيقة فيكون مفعول { أن نرسل } محذوفاً دل عليه فعل { نرسل }. والتقدير أن نرسل رسولَنا، فالباء في قوله { بالآيات } للمصاحبة، أي مصاحباً للآيات التي اقترحها المشركون. ويجوز أن يكون الإرسال مستعاراً لإظهار الآيات وإيجادها، فتكون الباء مزيدة لتأكيد تعلق فعل { نرسل بالآيات } ، وتكون { بالآيات } مفعولاً في المعنى كقوله تعالىوامسحوا برؤوسكم } المائدة 6. والتعريف في { بالآيات } على كلا الوجهين للعهد، أي المعهودة من اقتراحهم كقولهملن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً } الإسراء 90 وقالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى } القصص 48 وقالوا لن نؤمن حتى نوتَى مثل ما أوتي رسل الله } الأنعام 124 على أحد التأويلين. و أن الأولى مفيدة مصدراً منصوباً على نزع الخافض، وهو مِن التي يتعدى بها فعل المنع، وهذا الحذف مطرد مع أن. و أن الثانية مصدرها فاعل { منعنا } على الاستثناء المفرغ. وإسناد المنع إلى تكذيب الأولين بالآيات مجاز عقلي لأن التكذيب سبب الصرف. والمعنى أننا نعلم أنهم لا يؤمنون كما لم يؤمن من قبلهم من الكفرة لما جاءتهم أمثال تلك الآيات. فعلم الناس أن الإصْرار على الكفر سجية للمشرك لا يقلعها إظهار الآيات، فلو آمن الأولون عندما أظهرت لهم الآيات لكان لهؤلاء أن يجعلوا إيمانهم موقوفاً على إيجاد الآيات التي سألوها. قال تعالىإن الذين حقت عليهم كلمت ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية } يونس 96-97. والأظهر أن هذا تثبيت لأفئدة المؤمنين لئلا يفتنهم الشيطان، وتسلية للنبيء لحرصه على إيمان قومه فلعله يتمنى أن يجيبهم الله لما سألوا من الآيات ولحزنه من أن يظنوه كاذباً. وجملة { وآتينا ثمود الناقة } في محل الحال من ضمير الجلالة في { منعنا } ، أي وقد آتينا ثموداً آية كما سألوه فزادوا كفراً بسببها حتى عجل لهم العذاب.

السابقالتالي
2