الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ }

لما ذكر المؤمنين وأحوالهم ذكر الكافرين ومآلهم. والكفر ضدّ الإيمان وهو المراد في الآية. وقد يكون بمعنى جحود النعمة والإحسان ومنه قوله عليه السلام في النساء في حديث الكسوف: " ورأيت النار فلم أر منظراً كاليوم قطّ أفظع ورأيت أكثر أهلها النساء» قيل: بِمَ يا رسول الله؟ قال: «بكفرهن» قيل أيكفرن بالله؟ قال: «يكفرن العَشِير ويكفرن الإحسان لو أحسنتَ إلى إحداهن الدهرَ كلّه ثم رأتْ منك شيئاً قالت ما رأيت منك خيراً قط " أخرجه البخاري وغيره. وأصل الكَفْر في كلام العرب: الستر والتغطية ومنه قول الشاعر:
في ليلة كَفَر النُّجُومَ غَمَامُها   
أي سترها. ومنه سُميَ الليل كافراً لأنه يغطي كل شيء بسواده قال الشاعر:
فَتَذَكَّرَا ثَقَلاً رَثيداً بَعْدَمَا   ألقَتْ ذُكاءُ يَمينَها في كافر
ذكاء بضم الذال والمدّ: اسم للشمس ومنه قول الآخر:
فوردَتْ قبل ٱنبلاج الفجرِ   وٱبنُ ذُكاءٍ كَامِنٌ في كَفْر
أي في ليل. والكافر أيضاً: البحر والنهر العظيم. والكافر: الزارع، والجمع كُفّار، قال الله تعالى:كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ ٱلْكُفَّارَ نَبَاتُهُ } [الحديد:20] يعني الزُّراع لأنهم يغطون الحب. ورماد مكفور: سفت الريح عليه التراب. والكافر من الأرض: ما بَعُد عن الناس لا يكاد ينزله ولا يمرّ به أحد ومَن حلّ بتلك المواضع فهم أهل الكفور. ويقال الكفور: القُرَى. قوله تعالى: { سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ } معناه معتدل عندهم الإنذار وتركه أي سواء عليهم هذا. وجيء بالاستفهام من أجل التسوية ومثله قوله تعالى:سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِّنَ ٱلْوَاعِظِينَ } [الشعراء:136]. وقال الشاعر:
وليلٍ يقول الناسُ من ظلماته   سواء صحيحات العيون وعورها
قوله تعالى: { أَأَنذَرْتَهُمْ } الإنذار الإبلاغ والإعلام، ولا يكاد يكون إلا في تخويف يتّسع زمانه للاحتراز، فإن لم يتسع زمانه للاحتراز كان إشعاراً ولم يكن إنذاراً قال الشاعر:
أنذرتَ عَمراً وهو في مَهَلٍ   قبلَ الصباح فقد عصى عَمْرُو
وتَناذَر بنو فلان هذا الأمر إذا خَوَّفه بعضُهم بعضاً. وٱختلف العلماء في تأويل هذه الآية فقيل: هي عامة ومعناها الخصوص فيمن حقّت عليه كلمة العذاب، وسبق في علم الله أنه يموت على كفره. أراد الله تعالى أن يعلم أن في الناس من هذه حاله دون أن يعيّن أحداً. وقال ٱبن عباس والكلبي: نزلت في رؤساء اليهود، منهم حُيَيُّ بن أَخْطب وكعب بن الأشرف ونظراؤهما. وقال الربيع بن أنس: نزلت فيمن قتل يوم بدر من قادة الأحزاب والأوّل أصح، فإن من عيّن أحداً فإنما مثّل بمن كشف الغيب عنه بموته على الكفر، وذلك داخل في ضمن الآية. قوله تعالى: { لاَ يُؤْمِنُونَ } موضعه رفعٌ خبر «إنّ» أي إن الذين كفروا لا يؤمنون. وقيل: خبر «إنّ» «سواء» وما بعده يقوم مقام الصلة قاله ٱبن كَيسان. وقال محمد بن يزيد: «سواء» رفع بالابتداء، { أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ } الخبر، والجملة خبر «إنَّ».

السابقالتالي
2