الرئيسية - التفاسير


* تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ) مصنف و مدقق


{ أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ ءَامَنُواْ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوۤاْ إِلَى ٱلطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوۤاْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ ٱلشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً }

لما أوْجَب الطَّاعَة على جميع المُكَلَّفين في الآيةِ الأولَى، ذكر في هذه الآيةِ أن المُنَافقين والذين في قُلُوبهم مَرَضٌ لا يُطيعُون الرَّسُولَ، ولا يَرْضُونَ بحُكْمِهِ، وإنما يُريدُون حُكْمَ غيره، و " الزَّعم " بفتح الزَّاي وضمها وكسرها مصدر زَعَم، وهو قَوْل يَقْتَرِنُ به اعتِقَادٌ ظَنِّيٌّ؛ قال: [الطويل]
1814- فَإنْ تَزْعُمينِي كُنْتُ أجْهَلُ فِيكُمُ   فَإنِّي شَرَيْتُ الْحِلْمَ بَعْدَكَ بِالجَهْلِ
قال ابنُ دُرَيْد: أكثرُ ما يَقَعُ على البَاطِلِ، وقال - عليه الصلاة والسلام -: " بِئْسَ مَطِيَّةُ الرَّجُلِ زَعَمُوا ".

وقال الأعْشى: [المتقارب]
1815- وَنُبِّئْتُ قَيْساً وَلَمْ أبْلُهُ   كَمَا زَعَمُوا خَيْرَ أهْلِ الْيَمَنْ
فقال المَمْدُوح: وما هُو إلا الزَّعْم، وحَرَمَهُ ولم يُعْطِه شَيْئاً، وذكر صَاحِبُ العين أنَّها تَقَع غَالِباً [على " أنَّ " ] وقد تَقَعُ في الشِّعْر على الاسْمِ، وأنشد بيت أبي ذُؤيْب، وقول الآخر: [الخفيف]
1816- زَعَمَتْنِي شَيْخاً وَلَسْتُ بِشَيْخٍ   إنَّمَا الشَّيْخُ مَنْ يَدِبُّ دبِيبَا
قيل: ولا يُسْتَعْمَل في الأكْثَرِ إلا في القَوْلِ الذي لا يَتَحَقَّقُ.

قال الليث: أهْل العَرَبيَّةِ يَقُولُون: زَعم فُلانٌ؛ إذَا شَكُّوا فيه فلم يَعْرِفُوا أكذبَ أمْ صَدَق؛ وكذلك تَفْسِير قوله:هَـٰذَا للَّهِ بِزَعْمِهِمْ } [الأنعام: 136] أي: بقولهم الكَذِب.

قال الأصْمَعِيّ: الزَّعُومُ من الغَنَم الذي لا يُعْرَفُ أبها شحم أم لا وقال ابن الأعْرَابِيّ: الزَّعْم قد يُسْتَعْمل في الحَقِّ، وأنشد لأميَّة بن أبي الصَّلْت: [المتقارب]
1817- وإنِّي أدينُ لَكُمْ أنَّهُ   سَيَجْزيكُمُ رَبُّكُمْ مَا زَعَمْ
وزعم [تكُون] بمعنى: ظَنَّ وأخَوَاتِهَا، فيتعَدَّى لاثْنَيْنِ في هَذِه الآيَةِ، و " أنَّ " سادَّةٌ مَسَدَّ مفْعُوليها، وتكون بمعْنَى " " كَفَل " فتتعدى لِوَاحِدٍ؛ ومنه:وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ } [يوسف: 72]، وبمعنى رَأس، وكذب وسَمُن، وهَزُلَ، فلا تتعَدَّى، وقرأ الجمهور: { أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ } مبنياً للمَفْعُول، وقُرِئا مبنيَّيْن للفاعِلِ، وهو اللَّه - تعالى -.

فصل: سبب نزول الآية

روي في سبب النُّزُولِ وُجُوه:

أحدُها: قال الشَّعْبِي: كان بَيْنَ رَجُلٍ من اليَهُودِ ورَجُلٍ من المُنَافِقِين خُصُومَة، فقال اليَهُودِيّ: نتحاكمُ إلى مُحَمَّد؛ لأنه عَرَفَ أنَّهُ عَرَفَ أنَّهُ لا يأخُذ الرَّشْوَة، ولا يَمِيلُ في الحُكْمِ، وقال المُنَافِقُ: نتحَاكمُ إلى اليَهُودِِ؛ لِعْلِمه أنَّهم يأخذُون الرَّشْوَة ويميلُون في الحُكْمِ، فاتَّفَقَا على أن يَأتِيَا كَاهِناً في جُهَيْنَةَ، فَيَتَحَاكَمَا إلَيْه، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآية.

قال جابر: كَانَتِ الطَّواغِيتُ التي يَتَحَاكَمُون إليها واحدٌ في جُهَيْنَة، ووَاحِدٌ في أسْلَم، وفي كُلِّ حَيٍّ واحدٌ كَهَّان.

وروى الكَلْبِي عن أبِي صَالِح عن ابن عبَّاسٍ: نَزَلَتْ في رَجُلٍ من المُنَافِقِين يُقال لَهُ: بشر، كان بَيْنَهُ وبَيْنَ يَهُودِيّ خُصُومَة، فقال اليَهُودِيّ: نَنْطَلِقُ إلى مُحَمَّد، وقال المُنَافِق: بل إلى كَعْبِ بن الأشْرَف، وهُوَ الذي سَمَّاهُ اللَّهُ طاغُوتاً، فأبَى اليَهُودِيُّ أن يُخَاصِمَه إلاَّ إلى رسُول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رَأى المُنَافِق ذَلِك، أتَى معه إلى رسُول الله صلى الله عليه وسلم، فَقَضَى رسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم لليهُودِيِّ، فلما خَرَجَا من عِنْدِه، قال المُنَافِقُ: لا أرْضَى [بهذا الحكم] فانْطلقْ بِنَا إلى أبِي بكْرٍ، فحكم لليَهُودِيِّ، فلم يَرْضَ، ذكره الزَّجَّاج.

السابقالتالي
2 3