الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا ٱسْتَطَعْتُمْ مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ ٱلْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ ٱللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ ٱللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ }

{ وَأَعِدُّواْ لَهُمْ } أي: لقتال ناقضي العهد السابق ذكرهم، أو الكفار مطلقاً، وهو الأنسب بسياق النظم الكريم { مَّا ٱسْتَطَعْتُمْ مِّن قُوَّةٍ } أي: من كل ما يتقوى به في الحرب من عددها، أطلق عليه القوة مبالغة.

قال الشهاب: وإنما ذكر لأنه لم يكن لهم في (بدر) استعداد تام، فنبّهوا على أن النصر من غير استعداد لا يتأتى في كل زمان.

{ وَمِن رِّبَاطِ ٱلْخَيْلِ } (الرباط) في الأصل مصدر ربط، أي: شدّ، ويطلق بمعنى المربوط مطلقاً، كثر استعماله في الخيل التي تربط في سبيل الله، فالإضافة إما باعتبار عموم المفهوم الأصليّ، أو بملاحظة كون الرباط مشتركاً بين معان أخر، كانتظار الصلاة، وملازمة ثغر العدوّ، والمواظبة على الأمر، فإضافته لأحد معانيه للبيان، كـ (عين الشمس)، ومنه يعلم أنه يجوز إضافة الشيء لنفسه إذا كان مشتركاً. وإذا كان من إضافة المطلق للمقيد، فهو على معنى (من) التبعيضية. وقد يكون (الرباط) جمع ربيط، كفصيل وفصال. قال في (التاج): يقال: نعم الربيط هذا، لما يرتبط من الخيل، ثم إن عطفها على (القوة) مع كونها من جملتها، للإيذان بفضلها على بقية أفرادها، كعطف جبريل وميكائيل على الملائكة { تُرْهِبُونَ بِهِ } أي: تخوّفون بذلك الإعداد { عَدْوَّ ٱللَّهِ } وهو المثبت له شريكاً، المبطل لكلمته { وَعَدُوَّكُمْ } أي: الذي يظهر عداوتكم، فتخوفونهم لئلا يحاربوكم باعتقاد القوة في أنفسهم دونكم.

تنبيه

دلت هذه الآية على وجوب إعداد القوة الحربية، إتقاءَ بأس العدوّ وهجومه. ولما عمل الأمراء بمقتضى هذه الآية، أيام حضارة الإسلام، كان الإسلام عزيزاً، عظيماً، أبيّ الضيم، قويّ القنا، جليل الجاه، وفير السنا، إذا نشر لواء سلطته على منبسط الأرض، فقبض على ناصية الأقطار والأمصار، وخضد شوكة المستبدين الكافرين، وزحزح سجوف الظلم والإستعباد، وعاش بنوه أحقاباً متتالية، وهم سادة الأمم، وقادة الشعوب، وزمام الحول والطول، وقطب رحى العز والمجد، لا يستكينون لقوة، ولا يرهبون لسطوة. وأما اليوم، فقد ترك المسلمون العمل بهذه الآية الكريمة، ومالوا إلى النعيم والترف، فأهملوا فرضاً من فروض الكفاية، فأصبحت جميع الأمة آثمة بترك هذا الفرض. ولذا تعاني اليوم من غصته ما تعاني. وكيف لا يطمع العدوّ بالممالك الإسلامية، ولا ترى فيها معامل للأسلحة، وذخائر الحرب، بل كلها مما يشترى من بلاد العدوّ؟ أما آن لها أن تنتبه من غفلتها، وتنشئ معامل لصنع المدافع والبنادق والقذائف والذخائر الحربية؟ فلقد ألقي عليها تنقص العدوّ بلادها من أطرافها درساً يجب أن تتدبره، وتتلافى ما فرطت به، قبل أن يداهم ما بقي منها بخيله ورجله، فيقضي، والعياذ بالله، على الإسلام وممالك المسلمين، لاستعمار الأمصار، واستعباد الأحرار، ونزع الإستقلال المؤذن بالدمار. وبالله الهداية.

وقوله تعالى: { وَآخَرِينَ } أي: وترهبون قوماً آخرين { مِن دُونِهِمْ } أي: من دون من يظهر عداوتكم، وهم المنافقون { لاَ تَعْلَمُونَهُمُ } أي: أنهم يعادونكم { ٱللَّهُ يَعْلَمُهُمْ } أي: أنهم أعداؤكم، يظهرون عداوتهم إذا رأوا ضعفكم.

السابقالتالي
2