الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير صدر المتألهين/ صدر المتألهين الشيرازي (ت 1059 هـ) مصنف و مدقق


{ نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ ٱلْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ } * { عَلَىٰ أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَـٰلَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لاَ تَعْلَمُونَ }

لمّا نبَّه على أنّ فاعل صورة الإنسان ومقدِّر وجوده هو الله سبحانه، بحسب جهات فاعليّة ترجع إليه من علمه وإرادته وحكمته - لا بحسب جهات قابليّة ترجع إلى القابل من مادّته ووضعه وحركته -، لأنّ تلك الجهات هي منشأ الفعليّة، والوجوب لحصول أصل الوجود، وهذه الجهات منشأ القوّة والإمكان لتعيّنه، ولاختصاصه بزمان ومكان، وتعدّد وانقسام، فاشار إلى أنّه المعيد كما أنّه المنشئ، فإنّ إيجاد الخلق إفادة أصل الوجود لهم، والإعادة إفادة أصل الوجود وثمرته وغايته. فالمجيء إلى الدنيا من الجنّة هو النزول من الكمال إلى النقص، والخروج من الفطرة الأصليّة، ولا محالة صدور الخلق من الحقّ لم يكن إلاّ على هذا الطريق.

والذهاب من الدنيا إلى الآخرة هو التوجّه من النقص إلى الكمال، والرجوع من الحالة الغربية إلى الفطرة الأصليّة، ولا محالة رجوع الخلق إلى الحقّ ليس إلاّ على هذا الطريقٱللَّهُ يَبْدَأُ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [الروم:11].

لكن السعداء يتوجّهون إليه تعالى بنفوس راضية، وقلوب سليمة عن العلايق الظلمانيّة والعوائق الرديّة، وأمّا الأشقياء فيرجعون إليه بنفوس مظلمة كدِرة، كثيرة التعلّق بالدنيا ومؤذياتها، وقلوب مسودَّة منكوسة متعلّقة إلى الأسفل.

و " التقدير ": ترتيب الأمر على مقدار. قوله: { نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ ٱلْمَوْتَ } يحتمل أن يراد منه: نحن خلقنا الأبدان الأخرويّة عند الموت بهيآت متفاوتة مختلفة وقسمناها بين أرواحكم مناسبة لأعمالكم وأخلاقكم، فإنّ الموت قد يطلق على حال الإنسان بعد هذه الحياة الدنيويّة.

وعن مقاتل: المراد من قدَّرنا الموت: قسّمناه عليكم قسمة الرزق، على اختلاف وتفاوت كما تقتضيه مشيّتنا، فاختلفت أعماركم بين قصير وطويل.

وعن الضحّاك: معناه سوَّينا فيه بين المطيع والعاصي وبين اهل السماء والأرض.

وقوله: وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقينَ - أي: لا يسبقنا أحد منكم عليه، ولا يُعجزنا عنه، تقول: سبقته على شيء إذا أعجزته عنه وغلبته عليه.

وقيل: إنّه من تمام ما قبله، فمعناه: لا يغلبنا أحد منكم على ما قدَّرناه من الموت بأن يدفعه.

وقيل: إنّه متّصل بما بعده - وهو قوله: عزَّ اسمه: { عَلَىٰ أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لاَ تَعْلَمُونَ }.

إعلم أنّ الروح الإنساني أوجده الله دائماً مدبراً للصورة الطبيعيّة، سواء كان في الدنيا، أو في الجنّة أو في النار، أو في غيرها، فأوّل صورة لبسها بعد الصورة التي أخذ عليها الميثاق، هي صورة دنيوية حشرة بها في رابع شهر من حين تكوّن صورة جسده في الرحم إلى ساعة موته وله فيها انتقلات متّصلة تتوارد عليها الأمثال على نعت الاتّصال، حتّى يظنّ أكثر الناس أنّ بدنه بعينه واحد شخصيّ من ابتداء العمر إلى انتهائه، وليس كذلك، بل له في كلّ حين حشر من صورة إلى أخرى مشابهة، ولتشابه الصور يلتبس ذلك عليهم، كقوله تعالى:

السابقالتالي
2