الرئيسية - التفاسير


* تفسير أضواء البيان في تفسير القرآن/ الشنقيطي (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ ٱلْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ } * { عَلَىٰ أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَـٰلَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لاَ تَعْلَمُونَ }

قرأ هذا الحرف عامة القراء السبعة غير ابن كثير { قَدَّرْنَا } بتشديد الدال، وقرأه ابن كثير بتخفيفها، وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن الآية الكريمة قد يكون فيها وجهان أو أكثر من التفسير، ويكون كل ذلك صحيحاً، وكله يشهد له قرآن، فنذكر الجميع وأدلته من القرآن، ومن ذلك هذه الآية الكريمة.

وإيضاح ذلك أن قوله { قَدَّرْنَا } وجهين من التفسير وفيما تتعلق به { عَلَىٰ أَن نُّبَدِّلَ } وجهان أيضاً، فقال بعض العلماء: وهو اختيار ابن جرير أن قوله { نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ ٱلْمَوْتَ } أي قدرنا لموتكم آجالاً مختلفة وأعماراً متفاوتة فمنكم من يموت صغيراً ومنكم من يموت شاباً، ومنكم من يموت شيخاً.

وهذا المعنى دلت عليه آيات كثيرة من كتاب الله كقوله تعالىثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوۤاْ أَشُدَّكُمْ وَمِنكُمْ مَّن يُتَوَفَّىٰ وَمِنكُمْ مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ ٱلْعُمُرِ } [الحج: 5] وقوله تعالىثُمَّ لِتَكُـونُواْ شُيُوخاً وَمِنكُمْ مَّن يُتَوَفَّىٰ مِن قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوۤاْ أَجَلاً مُّسَمًّى وَلَعَلَّـكُمْ تَعْقِلُونَ } [غافر: 67] وقوله تعالىوَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ } [فاطر: 11] وقوله تعالى:وَلَن يُؤَخِّرَ ٱللَّهُ نَفْساً إِذَا جَآءَ أَجَلُهَآ } [المنافقون: 11] وقوله { وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ } أي ما نحن بمغلوبين، العرب تقول: سبقه على كذا أي غلبه عليه وأعجزه عن إدراكه أي وما نحن بمغلوبين على ما قدرنا من آجالكم وحددناه من أعماركم فلا يقدر أحد أن يقدم أجلاً أخرناه ولا يؤخر أجلاً قدمناه.

وهذا المعنى دلت عليه آيات كثيرة كقوله تعالىفَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ } [الاعراف: 34] وقوله تعالىإِنَّ أَجَلَ ٱللَّهِ إِذَا جَآءَ لاَ يُؤَخَّرُ } [نوح: 4] الآية، وقوله تعالىوَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَاباً مُّؤَجَّلاً } [آل عمران: 145] إلى غير ذلك من الآيات.

وعلى هذا القول، فقوله تعالى: { عَلَىٰ أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ } ليس متعلقاً بمسبوقين بل بقوله تعالى: { نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ ٱلْمَوْتَ } والمعنى: نحن قدرنا بينكم الموت على أن نبدل أمثالكم، أي نبدل من الذين ماتوا أمثالاً لهم نوجدهم.

وعلى هذا، فمعنى تبديل أمثالهم إيجاد آخرين من ذرية أولئك الذين ماتوا وهذا المعنى تشهد له آيات من كتاب الله كقوله تعالى:إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُمْ مَّا يَشَآءُ كَمَآ أَنشَأَكُمْ مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ } [الأنعام: 133] إلى غير ذلك من الآيات.

وهذا التفسير هو اختيار ابن جرير، وقراءة قدرنا بالتشديد مناسبة لهذا الوجه، وكذلك لفظة بينكم.

الوجه الثاني: أن قدرنا بمعنى قضينا وكتبنا أي كتبنا الموت وقدرناه على جميع الخلق، وهذا الوجه تشهد له آيات من كتاب الله كقوله تعالى:كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ } [القصص: 88]، وقوله تعالى:كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ ٱلْمَوْتِ } [آل عمران: 185]، وقوله تعالى:وَتَوَكَّلْ عَلَى ٱلْحَيِّ ٱلَّذِي لاَ يَمُوتُ }

السابقالتالي
2